logo

logo

الحقوق والحرية الدينية في خطاب الحركة الإسلامية بين الخصوصية والكونية

image

Changement Demographiques

في كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام" قدم راشد الغنوشي وهو أحد مؤسسي وقادة حركة النهضة الإسلامية بتونس وأحد منظريها الأساسيين تصوره للحريات وحقوق الإنسان في الإسلام من منطلق مرجعيته الإسلامية التي يصنفها ضمن التيار الوسطي في الحركة الإسلامية العربية هو تيار يقول عنه بأنه "يؤثر التعايش والحوار في إطار القوانين السائدة على المواجهات وضروب النفي والإقصاء" ويتضح ذلك في المجال السياسي التونسي من خلال قيادته حاليا لتجربة حكومية ائتلافية مع أحزاب وأطراف علمانية فالغنوشي حريص على أن يتميز عن التيار التكفيري والجهادي وجماعات القاعدة التي قال عنها بأنها لا تزال "جماعات جهادية تصر على رفض النهج الديمقراطي والسياسي القائم على التعددية وتداول السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع... واعتبار الجهاد "السبيل الوحيد للإطاحة بالأنظمة(...) "واعتبار الديمقراطية بضاعة كافرة لا مكان لها في الإسلام" (ص 110 من الكتاب السابق الذكر)، وهذا التميز يعكسه الغنوشي بوضوح على مستوى خطابه وموقفه من الديمقراطية وحقوق الإنسان.. فما هو إذن هذا الموقف الذي أراده الغنوشي أن يكون وسطيا ومتميزا من حقوق الإنسان وخاصة من مسالة الحريات والحرية الدينية تحديدا ؟ وهل نجح فعلا في التأسيس لهذا التميز ؟ أم أن ما يقوله عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان لا يختلف كثيرا ولا يتميز عن مواقف وتصورات من يضعهم خارج التيار الوسطي للحركة الإسلامية ؟ وهل ثمة لدى الغنوشي جدة أو اجتهاد في التأصيل لمفاهيم حقوق الإنسان في خطابه الإسلامي ؟ وإلى أي حد توفق في المصالحة بين هذه الحقوق في دلالتها الكونية مع خصوصيته الإسلامية ؟ هذا علما بأنه ثمة في خطابه تنازعا بين ما سماه بالتصور الإسلامي الحضاري والتصور الغربي الفلسفي لمسألة الحريات وحقوق الإنسان ويعتبر التصور الإسلامي تصورا إيمانيا (يقوم على الإيمان بالله) وعلى أن الإنسان مجرد مستخلف (نظرية الاستخلاف)، بينما التصور الغربي ذو طابع علماني يعطي الأولوية للإنسان ويؤكد على مركزيته_ ويستند على الطبيعة، وهو هنا يشير إلى مفهوم الحالة الطبيعية الذي اعتمده الفلاسفة الأوربيين في القرن السابع عشر والثامن عشر مثل الفيلسوف الانجليزي جون توك (1632-1704) كمرحلة سابقة على الحالة المدنية وهي في نظر لدك حالة الحرية الكاملة والمساواة التي كان عليها الأفراد قبل قيام السلطة والدولة. وإجمالا فإن فهم موقف الغنوشي كمعبر عما سماه بالتيارالوسطي داخل الحركة الإسلامية من الحريات والحرية الدينية خاصة يقتضي تحليل ما يسميه بالتصور الإسلامي القائم على مفهوم "الاستخلاف" في مقابل التصور الغربي القائم على مفهوم "الحالة الطبيعية" ومركزية الإنسان ذلك لأن تصوره الإسلامي هو الإطار النظري والفلسفي العام الذي يشكل مرجعية لمواقفه الخاصة من الحريات وحقوق الإنسان وحرية المعتقد والاقتصاد والملكية (لكسر الميم) والفرد والجماعة والعلاقة بينهما ..إلخ، وللتذكير فإن الغنوشي وهو يستعمل مصطلح التصور يترادف عنده مع مصطلح "الحضارة" ويحيل عليه، فهو حين يتكلم عن التصور الإسلامي أو التصور الغربي ضمنيا يتكلم عن حضارتين مختلفتين (محيلا في هذا الاتجاه على مالك بن بني الدين يصفه بأستاذه، انظر ص 216 من الكتاب). من جهة حضارة الغرب التي تقوم على "استقلال الإنسان ومركزيته في الكون" (ص 217) ومن جهة أخرى حضارة الإسلام التي تقوم على فكرة الاستخلاف، فمفهوم الاستخلاف إذن من المفاهيم المركزية التي وظفها الغنوشي في بناء تصوره الإسلامي وتمييزه عن التصور الحضاري الغربي، ومعلوم أن هذا المفهوم له مرجعية قرآنية حيث ورد في عدة آيات مثل "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة - 30]. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الدين من قبلهم"[المؤمنون: 54] – يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى..." "وعد الله الدين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم آمنا يعبدونني لا يشركو بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [النور، 55]... إلى غيرها من الايات التي كانت موضوعا للتفسير من طرف مفسرين مسلمين قدامى ومحدثين إلى جانب مفكرين إسلاميين اعتمدوا هذا المفهوم القرآني كمحمد إقبال، وسيد قطب والبهي الخولي وغيرهم وكان الاستخلاف عندهم أساسيا باعتباره مبدأ الحضارة الإنسانية الصحيحة في ارتباط بمفاهيم أخرى مثل "الأمانة" "التمكين" "التكليف" إلخ مما لا يتسع المجال للتوسع فيها، لأن ما يهمنا هو الوقوف عند تصور الغنوشي وموقفه من الحريات والحرية الدينية تحديدا انطلاقا من تصوره الإسلامي الشمولي وفي هاذ السياق نجد أن الغنوشي يؤكد على أن التصور الإسلامي للحرية لا ينبثق من طبيعة الإنسان كما هو الحال في التصور الغربي، وإنما من الاستخلاف فالإنسان بالنسبة له مستخلف عن الله في الأرض وضمن عهد الاستخلاف – كما يقول – تتنزل جملة حقوق وواجبات الإنسان .. وبالتالي فالتكليف هو أساس الحرية.. التي ليست بالنسبة له غاية في ذاتها بل وسيلة لعبادة الله وفي نظره "كلما زاد الإنسان عبودية لله زاد تحررا من كل مخلوق في الطبيعة".. وبهذا يكون الإنسان الجدير بالحرية عنده هو المؤمن بالله، وهنا نلمس لديه بأنه "الإيمان بالله" يشكل أساس الحقوق والواجبات واضعا بذلك تعارض بين هذا التصور والتصور الآخر الذي تتراجع فيه مركزية "الله" لصالح مركزية الإنسان... والذي يسميه بالتصور الغربي والعلماني الذي صدرت عنه المواثيق والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان مع تصريحه بتفوق وامتياز التصور الإسلامي والحضاري في مفهومه للحريات على التصور الغربي. ومن اجل توضيح ذلك قدم عدة مبررات منها أن حرية الإنسان في الإسلام تهتدي بالوحي ولا تخضع لمنطق الضرورة وانه لا تكليف بدون عقل ولا حرية لأن الفعل الاستخلافي لا يكون تعبديا إلا بقدر ما يكون حرا وواعيا ومسؤولا، كما أن الدين يحرر المسلم من الارتهان للغرائز ولحاجياته.. أما في المجال السياسي فإن النظام الإسلامي قائم هو الآخر على الحرية والشورى والاختيار، وفي الاقتصاد، هناك حرية المبادرة والتملك وكون الملكية لله فهذا في نظره يحرر الإنسان من أن يصبح عبدا للدينار، أما في مجال حقوق المرأة فالإسلام أكد على مبدأ المساواة.. وفي مجال العقيدة – وهذا بيت القصيد – حاول الغنوشي معالجة ما تطرحه الردة وحكم المرتد من نفي للحرية الدينية انطلاقا من الحرية من بذل دينه فاقتلوه" وذلك بقوله أن الردة مسألة سياسية وليست عقائدية معتمدا في ذلك على تأويله لارتداد بعض القبائل بعد موت الرسول (ص) وقيام أبي بكر بمحاربتها بأنه لم يكن ذلك لأنها رفضت الدين الإسلامية وإنما لتمردها على الدولة، مما يوضح سعي الغنوشي إلى التقليل من أهمية الحكم على المرتد كما هو معروف لدى الفقهاء المسلمين بالقتل... ونظرا لاختلاف العلماء فيها حيث أن هناك من عدها حدا وهناك من قال بأنها عقوبة تعزيرية يخير الحكام في اتخاذها والخلاصة بالنسبة له انه لا نص قاطع يفصل في قتل المرتد وهو بهذا الاجتهاد يعبر عن توجه سائد لدى أغلب المفكرين الإسلاميين الذين صادفتهم قضية قتل المرتد أثناء مناقشتهم لحرية الاعتقاد والحكم بالقتل على المرتد أي المسلم الذي بدل دينه مما يتنافى مع حرية الإنسان في الاعتقاد، كما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 18 التي تؤكد ان لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل هدا الحق حرية تغيير ديانته أوعقيدته وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر سرا او مع الحماعة وقد سبق للمرحوم علال الفاسي (كما تطرقنا لذلك) أن قدم اجتهاده حول المسألة حاول فيه إثبات أن الحرية هي المبدأ العام الذي يقوم عليه الإسلام وأن مسألة الاعتقاد والإيمان مسألة مرتبطة بضمير الفرد وتخصه وحده فالله وحده من يحاسب ولا حق لحد في ذلك واستدل على ذلك بالآية "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..." و"لا إكراه في الدين" إلخ .. وفي مواجهته للحديث "من بذل دينه فاقتلوه" قال بأن عقوبة الردة غير موجهة لحرية المعتقد وإنما إلى اقترافه فعل الغدر والخيانة لأمته وأضاف أنه "لو ستر المرتد ارتداده ولم يجهر به فلا عقوبة عليه"[انظر موقف علال الفاسي في مقالنا السابق في نفس الموضوع] وعلى أي حال فإن علال الفاسي حاول الخروج من المأزق بتأويل كان الغرض منهما الدفاع عن حرية العقيدة وتأصيلها وفي نفس الاتجاه سار الغنوشي دون محاولة سواء من علال الفاسي أو الغنوشي التشكيك في صحة الحديث... حيث اختارا عوض ذلك الالتفاف عليه بجعل الحكم (حكم القتل) سواء المتضمن في الحديث أو الذي حدث في عهد أبي بكر على أنه ذو مقصد سياسي. وهذا نجده أيضا عند مفكر آخر لا ينتمي لا إلى تيار الغنوشي ولا إلى سلفية علال الفاسي وهو المفكر محمد عابد الجابري الذي أول هو الآخر الارتداد والردة بالخروج "على الدولة الإسلامية" وبالتالي وكما قال في كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان (وقد تعرضنا له في السابق) فالمرتد زمن النبي وزمن الحلفاء "في حكم الشخص الذي يخون وطنه ويتواطأ مع العدو" وبالتالي وهذا ما يؤكده الغنوشي فالردة بهذا المعنى "مسألة سياسية وليست عقائدية" لكن حتى ولو افترضنا ذلك فإن القتل – قتل المخالف في الرأي أو في السياسة أو في أي مجال آخر يبقى مع كل المبررات التي قدمها الغنوشي وعلال الفاسي والجابري يتنافى مع مرجعية وشريعة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لأن الحق في الحياة من الحقوق الإنسانية التي نصت هذه المواثيق والإعلانات على احترامها وحمايتها.. والملاحظ أن المفكرين الثلاثة رغم التباين والحاصل في الانتماء الفكري والإيديولوجي بينهم ... نجدهم يعولون في عملية تأصيل الحرية الدينية خاصة والحريات عموما وحقوق الإنسان على الآلية الفقهية المقاصدية إذ نجد أن الفقه المقاصدي كما تأسس مع "الشاطبي في الموافقات وطوره بعض الإصلاحيين السلفيين كالطاهر بن عاشور يحتل مكانة مهمة في مشاريعهم غير أن ثمة فرق أساسي وجوهري يختص به الغنوشي وتياره الإسلامي وهو أنه رغم اعتماده للمنظور المقاصدي كإطار عام لمعالجة قضايا حقوق الإنسان فهو يلح على ما يسميه بالتصور الإسلامي كإطار اعم وشامل لكل القضايا المعاصرة بدءا من الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وحرية المرأة والاقتصاد والسلطة ...إلخ فهذه الإطار الأعم الذي يسميه بالتصور الإسلامي – وهو مصطلح استخدمه أيضا سيد قطب – هو الذي يحكم مقاربته لمختلف القضايا والإشكالات التي تطرح في إطار علاقة الإسلام بالحداثة. وهذا التصور الإسلامي كما أسلفنا القول تصور شمولي له خصوصياته ومفاهيمه التي تضعه في تعارض مع "التصور الغربي" ويجيب عن كل شيء، وغالبا ما يوازن ويقارن الغنوشي بين التصورين ليخلص إلى أن الإنسان في تصوره الإسلامي مستخلف عن الله في الكون  مركزية الله والإيمان  أسبقية الجماعة على الفرد وهو بهذا ضمنيا ينتقد ويرفض مركزية الإنسان والنزعة الفردانية بما تفترضه من حرية الفرد إزاء جميع السلط بما فيها السلطة الدينية، (فالتصور الغربي عنده ضمنيا لا ديني دهري كما يقول). وهذا شيء معروف تاريخيا لأن الغرب (أوربا) ومنذ القرن 18 أحدث قطيعة مع الرؤية الدينية وأحل محلها الرؤية العقلية والعلمية بعد أن كانت الكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين تفرض أفكارها كحقائق مطلقة وكل من لا يؤمن بها فهو كافر. فالتطور الذي حصل في أوربا من خلال تجربة الأنوار أفسح المجال أمام الحرية الدينية حيث أصبحت حرية التدين والعقيدة أساسية ومقترنة بحرية الضمير للأفراد بأوسع معانيها بما فيها حرية الرأي والتعبير عن الآراء ونشرها. وهنا نتساءل، ألم يشكل التصور الشمولي كما يتبناه الغنوشي عن الإسلام عائقا أمام الحداثة وتأصيل مفاهيم حقوق الإنسان والحرية الدينية رغم ما ادعاه من وسطية واعتدال في التعامل مع هذه المفاهيم ؟ خاصة وأنه لا ينفك وهو يقارن بين ما أسماه بالتصور الإسلامي والتصور الغربي يؤكد على التميز وعلى مادية التصور الغربي وإقصائه للدين مقابل التصور الإسلامي القائم على "المنهج الإلهي" الذي يصفه بانه تحرري ومتفوق على التصور الغربي.مستعيدا بدلك الاطروحات التي تقول بمادية الحضارة الغربية وانحطاطها. وبالتالي فهو يرى أن هذا التصور الشمولي هوالاصح و البديل عنها في تنظيم الحياة على مستوى الفرد والمجتمع والحريات العامة والخاصة والدولة. إن هذا التصور الشمولي في نظرنا المتمركز على الذات والذي تهيمن عليه المرجعية الدينية يحتوي على نزوع صدامي انغلاقي إقصائي وتصور ثابت للهوية والخصوصية يرى الحضارة الأخرى الغربية والأوربية برؤية إختزالية على أنهافقط ماديةولادينية تريد أن تفرض هيمنتها على باقي الحضارات الغير أوروبية مما يدفع إلى خلق صراع وتعارض بين الحضارات عوض التفاعل والحوار بينها من أجل بناء ثقافة إنسانية مشتركة وتصور كوني بمثابة أفق إنساني مشترك تذوب فيه الخصوصيات وتساهم فيه كل حضارة بنصيبها. وأخيرا إذا كان الغنوشي يرى بان الحضارة أو التصور الغربي يفتقد إلى البعد الروحي والإيماني – وإن كان هذا غير صحيح بالتعميم – فيمكن إذن للفكر الإسلامي وللمفكرين المسلمين أن يساهموا في هذا الجانب وتلقيح الحضارة الغربية على هذا المستوى في إطار ما يمكن أن نسميه بجدلية الخصوصي والكوني كما أن الأخلاقية الإسلامية بمعنى (الايتيقا الإسلامية) بالمقابل عليها أن تغتني بالثقافات الأخرى بما فيها ثقافة حقوق الإنسان ومواثيقها التي تنطلق من أولوية الإنسان وحريته بما فيها حرية الاعتقاد وحرية العبادة مما يسمح ببناء مجتمع المواطنة والعدالة والديمقراطية والتسامح والتعايش السلمي بين الديانات والثقافات والشعوب. أما التصورات الشمولية في نظرنا والتي تدعي تقديم الحلول لكل المشاكل وتحتمي بالخصوصية غالبا ما تكون مطية للاستبداد والتوليتارية كما علمنا التاريخ ذلك. حقوق المؤلف محفوظة "للمركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية". يرجى ذكر المصدر عند إعادة النشر.