logo

logo

البلدان العربية وأولوية البحث العلمي : إلى متى سيستمر الهدر ؟

image

في مسرحية "رجل الذكرى" لعبد الله العروي، يُسجّل "عمر"- وهو إحدى شخصياتها الرئيسة"- انحلال علاقته بماضيه، وعجزه عن ربط علاقة قوية جديدة مع الحاضر، فيواجه وحيدًا أعزل المستقبل الغامض، ومن وراء المستقبل الزمن المتحكّم في كل شيء.  إنها المواجهة التي صاغها الجابري رحمة الله عليه، وهو الوفي لمنطق الاستفادة الذكية من الماضي، في سياق التنبيه إلى صعوبة أن يحيط الباحث أو المهتم بشأن من شؤون البلدان العربية بدون ربط الفروع بالأصول والحاضر بالماضي، من منطلق أن كل شيء، في مجال السياسة، كما في مجالات أخـرى، له تاريخ. ضمن هذا الترابط، ووعيًا بنسبية الثبات فيه، ألا يحيّرنا من اكتشف فجأة أهمية البحث العلمي عندما لزم الناس بيوتهم خوفا من عدوى "فيروس كورونا المستجد"؟ متى تسللت إلى أذهاننا فكرة أن صناعة اللقاح أو الدواء أو تحسين مناخ الإبداع يستلزم التسلح بحسن النية أو الاتكال؟ ألم يدهشنا من كان يُقوّي معارفه بقراءة سرديات التحكم والمؤامرة التي لا تنتهي؟ انتبهنا -ولو بشكل متأخر- إلى ما تستطيع الدولة فعله إن هي راهنت على الموارد الذاتية طبيعية كانت أو بشرية. هل استوعبنا الدرس جيدا؟ العلم قوة، والدولة سنده ومحركه. من خلال أجهزتها المختصة تحدد الميزانيات الموجَّهة لكل قطاع، وتسنّ القوانين، وتنفذها، وتحكم في النزاعات بين الناس. أليس بإمكانها والحالة هاته أن تحتضن الذكاء وترعاه؟ ألا تستطيع، بالاستناد إلى شهادة التاريخ والواقع، أن تربي النفوس على التطلع إلى العلم والاقتداء بأهله، أو تزرع في العقول الافتخار به وتحفيزه أو العكس؟


يظن أناس كثيرون، منهم مثقفون، أن التاريخ هو مجموع أحداث الماضي، والحال أنّنا عندما نتأمّله ونفهمه نجده يدعونا بعد شك واحتراز إلى "استيعاب المحفوظ" لاستشراف مستقبل الماضي والحاضر. في ظل هذا التصور، ونحن نتابع اتساع قائمة البلدان العربية التي ستشارك في الاختبارات السريرية -المتعلقة بتجريب آثار اللقاح المضاد لـ"كوفيد 19"- طمعًا في الحصول على كميات كافية منه؛ وبغض النظر عن بيانات منظمة الصحة العالمية وما تُبْطنه من تنافس محتدم بين المراكز والمختبرات الكبرى في العالم، يتسلّل إلى أذهاننا تساؤل مستفز مُثقل بالآمال والآلام: أين علماؤنا وباحثونا؟ هل أبعدتهم قواعد "اللعبة" المستترة التي تلزم الخاضعين لها "بترطيب علاقاتهم مع من استحدثوها اعتباطا" بتعبير آلان دونو Alain Deneault؟ لم لا يُذكرون في الغالب إلا بعد موتهم أو إشادة الغير بهم؟ لم هذا العجز عن زرع الثقة في عقول ونفوس أزيد من 362 مليون عربي على اختلاف مواقعهم وتوجهاتهم؟ 


أخاف أن أخيب أمل القارئ إن كان يظن أن المقال الذي بين يديه يحمل إجابة أو إجابات جد متفائلــة. لا أقصد أن لا شيء أُنجز بقدر ما ألفت الانتباه إلى أن أمورا كثيرة لم تنجز بعد، وأن ما تم إنجازه يحتاج إلى استثمار وتطوير دائمين. ومهما كان الحكم قاسيا بالنسبة لمن يعنيهم الأمر، من إدارة وهيئة تدريس وطلبة، ومنهم جامعيات وجامعيون أكفاء ونزهاء، وباحثات وباحثون مثابرون، هناك واقع حال غير سويٍّ، يجعل المراكز والمختبرات البحثية داخل الجامعة أو خارجها تتعثر، وتَتِيه بعد كل ولاية أو تعديل حكومي في دوامة من "إصلاح الإصلاح" أو ما يسميه بيير بورديو Pierre Bourdieu بـ"الوصفة القاتلة للإصلاح". ماذا ننتظر؟ هل الأمر عسير؟ القول بالتعقيد خضوع للواقع وتحدياته، الإنكار مكابرة وتعام لا غير في عالم موسوم بتقلص المسافات بين أقطابه، من جهة، ومحكوم بمصالح وتكتلات جيوسياسية كبرى، من جهة ثانية. المؤسف والمؤلم في هذا السياق، حسب الراحل المنجرة رحمة الله عليه، أن العالم العربي أو الإفريقي لم يفهم بعد أن الاتحاد والتكتل ليست مسألة سياسية، وإنما هي قبل كل شيء مسألة بقاء. أزمة الدول المنتمية لهذا العالم معروفة منذ عقود؛ وهي أن النموذج التنموي الذي تم اختياره من طرف المسؤولين، هو عدم الاعتماد على الذات، واللجوء عوض ذلك إلى المساعدة الفنية والتعاون الدولي، في حين أن الحل الوحيد هو الاعتماد على النفس وخلق النموذج التنموي الذاتي. هل هي دعوة للانغلاق كما قد يفهم البعض؟ أبدًا، العمل الجماعي ضرورة لصقل الخبرات وتكاملها، الاتكال على الغير ودفع الخبرة الوطنية، عن قصد أو جهل، إلى الاغتراب أو التأقلم مع القائم تكريس للتخلف والتشرذم ليس إلا.


وعيا بآثار هذا الاتكال، ظلت مجلة المستقبل العربي، وهي الحاملة لمسار فكري طويل موسوم بالعطاء والمقاومة والتطلع إلى الوحدة، تُنبّه عبر بحوثها المحكّمة لأزيد من أربعة عقود من الصدور اليومي إلى ضرورة الاستثمار في البحث العلمي والعناية بالمشتغلين المجدّين به. سنة 1978، وتحديدا ضمن عددها الثالث، استهل إلياس زين نظرته الخاطفة حول اتجاهات المستقبل لهجرة العقول العلمية والكفاءات الفنية والمهنية بهذا السؤال الجوهري: هل ستزداد الهجرة العلمية من الأقطار العربية للبلدان المتقدمة أم ستخفّ. أجاب قائلا آنذاك: تسير الهجرة العلمية جنبًا إلى جنب مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.  فلا رادع لها ولا جاذب للمهاجرين سوى التنمية الشاملة والمتكاملة. فما الذي تغير بعد هذه المدة الزمنية؟ أيّ نموذج تنموي اتبعته البلدان العربية: المنتج لقيم البحث العلمي أم المكرّس لتأخره وتبعيته؟
 

 

الحبيب استاتي زين الدين | أستاذ العلوم السياسية في جامعة عبد المالك السعدي - المغرب.