هل يدرك العالم العربي أن الجائحة وما بعدها، يشكلان لحظة تاريخية، إنسانية وحضارية، تكتسي طابعا مفصليا، يتيح له فرصة مراجعة الذات، في اتجاه تحقيق الطفرة التنموية الحقة، وتغيير التموقع نحو الأفضل على المستوى العالمي؟
إن كان يدرك ذلك فعلا، فهل هو مستعد الان، وقبل فوات الأوان، لأن يقوم بكشف شامل لمكامن الخلل والضعف التي تعوق مساره لتحقيق هذا المبتغى؟
لقد تبين أن الريع الطبيعي، المتمثل في ما تزخر به الأرض العربية من ثروات باطنية، ومن جمال طبيعة ومناخ، لم يحققا سعادة الانسان العربي ولا ازدهاره ولا انخراطه في مسلسل انتاج القيم المضافة على المستوى الإنساني. ولا احد يعرف لماذا، ولا أحد يجرؤ على البحث عن هذا "اللماذا؟".
إن الانهيار المفاجئ لأسعار النفط كاد أن يفضح المستور، وينزع ورقة التوت. ويرجع الانسان العربي الى طبيعته الأولى، أي طبيعة البداوة المتأصلة في النفس، وفي السلوك الباطني، وفي الذهنية والوجدان، رغم مخادع المظهر. بل ان احتمال وقوع هذه الانتكاسة، يظل واردا ومحتملا، ما لم يدرك الحاكم العربي أن النمو والازدهار مرتبطان بمكنون الانسان، أكثر من ارتباطهما بمخزون البلدان. ومن ثمة يصبح لمقام الجائحة مقالها المخصوص بالنسبة للإنسان العربي، ولمجاله، ولطبيعة العلاقة بينهما في الحال وفي المال.
وغريب أمر الدرس الذي لقنته ايانا، نحن العرب، جائحة الفيروس التاجي "كورونا"؛ انها ما إن تصيب فردا من الأفراد، حتى تكرس "فردانيته" بشكل مطلق، وبكل معانيها؛ يعزل عن عائلته، ويفصل عن قبيلته، ويبعد عن عشيرته، ويتوارى عن صاحبته وعن بنيه، وبذلك يشفى، ويكسب مناعته الذاتية، وينخرط في الحياة الإيجابية.
ان "العصبوية" التي تشكل السمة الغالبة على المجتمعات العربية من خلال تكريس الانتماء القبلي، والمناصرة العشائرية، والاستقواء العرقي والفئوي، هي الحاجز المانع لمجتمع الكفاءة والاستحقاق، والتنافس، والابتكار في مجالنا العربي. بل لعلها البؤرة الحاضنة لكل اشكال التوتر، واللااستقرار، والمانعة للعيش الامن والمشترك. فهذه لبنان، تشكل اليوم، نموذجا عربيا صارخا لما يمكن أن تؤدي اليه "العصبوية" communautarisme المستشرية في هذا المشهد المتوتر والمنذر بالانفجار المجتمعي في كل حين.
لا شك أن لموضوع الحسم في ثنائية العصبة/الفرد، راهنية ملحة. فالظروف التي استوجبت التكثل العصبوي فيما مضى، ليست هي الظروف التي نعيشها اليوم. وبالتالي يصبح الاستمرار في ابقائها وتعطيل دور الفرد العربي، تعطيلا للتطور البشري، بالنظر لما تمثله مساهمة الفرد، بمفهومه المطلق، في تطوير الحياة الإنسانية.
خصوصا وان العصبوية لا تمثل مفهوما مجردا ، ولكنها، بالأحرى، بؤرة مفاهيمية، يتشابك فيها جانب اجتماعي ظاهر، تمثله الانتماءات القبلية و العشائرية وغيرها؛ و جانب سوسيو اقتصادي محكوم بالطابع الابوي في الحفاظ على وحدة الملكية العائلية وما يستوجب ذلك من انغلاق على الذات العرقية و العائلية والعشائرية و الطائفية، مخافة تشتت الملكية وتفتيتها والسماح للأغيار بالاندساس إليها؛ وجانب سياسي، يحيل التعددية، المفروض ان يكون مجالها الرأي الحر والاختيار المفتوح، إلى تعددية للكثل المغلقة على ذاتها؛ وجانب ذهني وفكري تتجسد فيه ومن خلاله كل هذه الجوانب السابقة، بتغليب المنقول على المعقول، والمورث على البدعة المستحدثة و المضللة… كل هذه الجوانب لا زالت مستشرية، إلى الآن، في الوطن العربي. وهي أقرب إلى أن تمثل طبعا جوانيا endogène منها الى طابع براني exogène تسهل معالجته...
محمد تملدو | مستشار أول بالمركز العربي للأبحاث.