logo

logo

الطبقة الوسطى ومسارات الحراك في المنطقة

image

تشير الكثير من التجارب الديمقراطية الحديثة إلى الأدوار الحيوية التي استأثرت بها الطبقة الوسطى في مراحل الانتقال، وتأمين مساراته. بحيث لا تخفى مكانتها ووزنها داخل المجتمعات على مستوى التحديث، ودعم الممارسات الديمقراطية، وترسيخ قدر من التوازن كصمام أمان بين الدولة والمجتمع. غالباً ما يتم ربط هذه الفئة بالمكانة الاقتصادية والتنوير الفكري؛ بما يحيل إليه الأمر من إيمان بالحوار والتعددية والتوافق، كما أن الأنماط الاقتصادية المعاصرة لم تعد تجعل من هذه الطبقة مجرد مصدر للاستهلاك والإقبال على السلع والخدمات التي يتيحها القطاع الخاص؛ بل أضحت داعماً مفترضاً لتحسين الخدمات والسياسات العمومية في جوانبها الإدارية والتعليمية والصحية.. ولا تخفى أهمية هذه الفئة في تغذية النخب المختلفة والمساهمة في تجدّدها بالنظر إلى امتلاكها لآليات التغيير على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. كما لا تخفى إسهاماتها المفترضة على مستوى تدبير الاختلاف والتنوع وترسيخ قيم المواطنة. وتشير الكثير من الدراسات والتقارير العلمية إلى أن دور الطبقة المتوسطة كان مرتبكاً وهامشياً في فترات الحراك الذي شهدته المنطقة، فهي لم تكن في مستوى التحديات والتطلعات التي فرضتها هذه المرحلة، حيث استأثرت في مجملها بمطالب ونقاشات قطاعية على حساب مطالب سياسية ودستورية؛ فيما فضل جزء منها ترديد وتبرير السياسات والمواقف الرسمية، أو التزام الصمت إزاء ما يجري. ثمّة عوامل ذاتية، وأخرى موضوعية، أسهمت في تردّي أوضاع الطبقة المتوسطة وعدم استئثارها بالمسؤوليات التي تقتضيها التحولات والمتغيرات التي فرضها الحراك، فعلاوة عن مظاهر الريع والفساد المتفشية داخل بعض أوساطها؛ إضافة إلى تغليبها لمصالحها الضيقة على حساب العامة، ولو بالسعي إلى الوصول للسلطة عبر كل السبل، تؤكد المعطيات الإحصائية أن تزايد حدّة الفوارق الاجتماعية في المنطقة، وانخراط عدد من الدول في إصلاحات هيكلية كلّفت هذه الفئة الكثير، كما أن تدهور أوضاع التعليم كفضاء لتجدّد النخب؛ وتفشي العنف والطائفية في عدد من دول الحراك، كلها عوامل أسهمت بدورها في تقزيم أدوار هذه الطبقة في مسارات الحراك؛ بما جعله يقترن بالارتباك والعنف والصراع والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. في هذا السياق؛ نظم مشروع منبر الحرية بشراكة مع مؤسسة «هانس سايدل» الألمانية الدورة الثامنة للجامعة الصيفية حول: «الطبقة الوسطى وريادة الأعمال بعد الحراك العربي»، بمشاركة عدد من الشباب من مختلف الأقطار (المغرب؛ وتونس والكويت ومصر واليمن وفلسطين والأحواز)، بمنتجع «ضاية الرومي» جنوب مدينة الرباط بالمغرب، وهي المناسبة العلمية التي دعيت للمشاركة في تأطيرها إلى جانب عدد من الباحثين العرب: د. شفيق الغبرا من الكويت ود. آمال قرامي من تونس، ود. مازن ديروان من سوريا، ود. إكرام عدنني، ود. ياسين أعليا من المغرب. وقفت المداخلات المقدمة على مجموعة من الإشكالات التي يطرحها واقع الطبقة الوسطى في المنطقة؛ من حيث التأكيد على أن عدم إعمال إصلاحات اقتصادية خلال المراحل الانتقالية، غالباً ما يحدث ارتدادات وتراجعات سياسية، وهو الأمر الذي طرح بشكل ملحّ في عدد من دول الحراك التي ما زالت بحاجة إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية، وتأمين مسار الحراك بمبادرات اقتصادية واجتماعية تمتّن الخطوات السياسية والمؤسساتية المعتمدة.. تمّ الوقوف أيضاً على الأداء المخجل للنخب المثقّفة خلال فترات الحراك؛ في مرحلة تقتضي تحمّل المسؤولية وتوجيه الأحداث بما يخدم مصالح الشعوب، مع التأكيد على أن رهان مصالحة المثقف مع واقعه ومحيطه لا تتحمّله الدول بتعزيز الحرية الأكاديمية والانفتاح على قضايا وإسهامات المثقفين والباحثين والمبدعين، بل يظلّ مقترناً أيضاً بإرادة هذه النخب نفسها عبر ممارسة التفكير الحرّ والنقدي بعيداً عن المقاربات التبريرية للسياسات الرسمية، وإلى ترسيخ ثقافة مجتمعية تؤمن بأهمية الفكر والمعرفة، وبدورهما في تطوير المجتمعات.. وجاء في إحدى المداخلات أن الحراك شكّل لحظة فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة، غير أنه ووجه من قبل قوى الثورة المضادة؛ ما أفرز تراجعات كبيرة كانت تكلفتها صعبة على مختلف الجهات. وفي رصدها لمكانة المرأة ضمن الحراك؛ جاء في إحدى الأوراق المقدّمة أن التغيرات السوسيو- اقتصادية لا تخلو من تداعيات على مستوى اتساع الفجوة بين الطبقات، وتمدّد دائرة الفقر بسبب تعاقب الأزمات وعجز الأنظمة السياسية عن بلورة حلول تناسب المرحلة بتحدياتها المختلفة، فيما ظلّت النساء من ضمن أكثر الفئات عرضة للهشاشة الاقتصادية بعدما ازدادت أوضاعهنّ سوءاً وتدهوراً خلال هذه المرحلة. وأشار أحد المتدخّلين إلى أن السياسات الاقتصادية الفاشلة المبنية على سياسات الدعم الحكومي وتجميد الأجور وتقليص المناصب الحكومية وتعويضها بتعاقدات غير منتجة؛ والاستدانة الخارجية المفرطة؛ وغياب مخططات اقتصادية استراتيجية وتفشي الفساد وغياب حرية اقتصادية في بعض دول المنطقة أرهقت الطبقات الوسطى. وحملت إحدى ورش الجامعة دعوة لتطوير أداء منظمات المجتمع المدني التي عانت ويلات الهيمنة والتضييق، لما يمكن أن تلعبه هذه الهيئات من أدوار حيوية على مستوى تمتين الروابط المجتمعية وترسيخ ثقافة البذل وقيم المواطنة والحرية وتحقيق الأمن بمدلولاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمساهمة في بناء دولة حديثة.

عن جريدة الخليج