بعيدا عن السياسة والمناولات الإعلامية، وقريبا من بعض المؤشرات السوسيولوجية، يعرف المغرب عددا من التحولات التي يجب الانتباه إليها. لعل أهمها ارتفاع وتيرة مسلسل الفردنة بما يعنيه من اهتمام الناس اكثر فأكثر بذواتهم و رغبتهم العارمة في تحقيق الذات المستقلة.
مؤشرات كثيرة تدل على ذلك، أولها تحقيق المغرب للانتقال الديمغرافي في وقت قياسي. لقد انتقل معدل الخصوبة لدى المرأة المغربية من 7,6 طفل للمرأة الواحدة في الستينيات إلى 2,2 خلال الإحصاء الأخير لعام 2014. عجز الديمغرافيون عن فهم هذا التغير القياسي الذي تم في أربعين سنة في حين احتاجت فرنسا ودول أوروبية أخرى إلى 200 سنة لتحقيقه (ليس المجال هنا للحديث عن تفنيد حالة المغرب لكل النظريات الديمغرافية السائدة).
إن اختيار العدد المحدود من الأطفال يعني فيما يعنيه تغيرا في علاقة الفرد بذاته، وعلاقته بالآخرين ولعل أهم ما يمكن استنتاجه أن المغربي بفعل شروط متعددة صار أكثر عقلانية في التعامل مع الأشياء. وحين نقول عقلانية فنعني بها القدرة على الحساب الكمي للتكلفة بما يضمن الربح ويقلل الخسارة. لم يعد الأطفال يشكلون الضمانة أو تقاعد الآباء. بل صاروا نوعا من الوجاهة الاجتماعية.
عقلانية الناس واتجاههم نحو الاهتمام بذواتهم سيعززها مؤشر آخر هو نسبة التمدن الماضية في الارتفاع والتي انتقلت من عشرة في المائة في بداية الاستقلال إلى أكثر من 60% عام 2014. هذا الانتقال دال سوسيولوجيا، لأن المدينة ومهما قيل عن ترييفها وغيرها، تؤثر على عقلية وقيم ساكنيها. إنها تشجح قيم الفردنة، والعقلنة، والبحث عن الحرية. فيها يصبح الفرد معولا على نفسه وليس على عشيرته أو قبيلته، فيها تتلاشى التضامنات الآلية وتعوض بتضامنات من أشكال مختلفة. فيها يصبح الفرد باحثا أكثر فأكثر عن حريته بما تتيحه مجهوليته في المجال.
إذا اكتفينا فقط بهذين المؤشرين، الانتقال الديمغرافي وارتفاع نسبة تمدن السكان، فإننا يمكن أن ندعي أن ارتفاع منسوب الفردنة في المجتمع المغربي ماضية في الارتفاع وبوتيرة متسارعة. وحينما نعني الفردنة لا نعني بها الأنانية، بل نعني انبثاق الفرد الحر، المستقل القادر على استبدال القبيلة، الجماعة، والبنيات التقليدية بعلاقات حديثة تنبني على الحق والمواطنة ودولة الحق والقانون، وتوفير مناخ اقتصادي واجتماعي كفيل بضمان الاستفادة المتوازنة من ثمار النمو.
إذا اكتفينا فقط بهذين المؤشرين وغير ها كثير- الاستعمال الفردي للتكنولوجيا ووسائط الاتصال والأنترنيت والشبكات الاجتماعية، وما تتيحه من تعبير عن الذات بعيدا عن الرقابة القبلية، بالإضافة إلى نسبة العزوف عن الممارسة السياسية الحزبية وتعويضها بالنضال الافتراضي والمشاركة السياسية عبر الأنترنيت، يمكن أن نقول أن حراك الريف، جرس إنذار مهم لا بد من أخذه بعين الاعتبار لإعادة النظرفي طبيعة التعاقد الاجتماعي وفي نموذج السلطة السائد بما يضمن انتقالات هادئة وسليمة وبدون خسائر انطلاقا من مسلمة أساسية مفادها أن كل تحول سوسيولوجي لا ترافقه تحولات تمس الماكروسياسي تحكم على النسق باللجوء إلى أدوات عنف (العنف بكل أنواعه)، للحفاظ على استقراره، لا يمكن التحكم بمآلتها وقدرتها على الصمود.