logo

logo

داعش باقية وتتمدد !!

image

الأراضي التي وقعت تحت سيطرة داعش إلى حدود ماي 2015. الأراضي التي وقعت تحت سيطرة داعش إلى حدود ماي 2015.[/caption]

 

 

هل يمكن لداعش أن تنتهي؟ من الناحية السياسية والعسكرية، يبدو أن شعار"الدولة الإسلامية باقية وتتمدد" ماض في التحول التدريجي نحو "إنها فانية وتتبدد". أما من الناحية السوسيولوجية، والمقصود هنا الفضاء القيمي المنتج للفكر الداعشي، فداعش "باقية وتتمدد"، بل إن كل العناصر الثقافية تجعل منها فكرة صامدة ويمكن أن تتجدد بأشكال وطرق مختلفة. صحيح أنها قد تختفي مؤقتا، لكن جذوتها وشعلتها الثقافية، بالمعنى الأنتروبولوجي، قد تفرز أشكالا أخرى من التطرف.

تستند هذه الفرضية على مفهوم خاص للفضاء القيمي. ونقصد به مجموع التصورات، المعتقدات، والمعايير السائدة، لدى قطاع واسع من الناس داخل مجتمع معين. وتصبح فرضية استمرار داعش احتمالا قائما  إذا عرفنا أن "المشروع" الداعشي استثمر بشكل كبير الفئة العمرية الشابة التي تتسم بوزنها الديمغرافي الكبير في العالم العربي، كما استثمر سهولة إدماجها في مشروعه المتمثل في "استعادة المجد الغابر للأمة" عبر رمزية إحياء دولة الخلافة.

قدرة داعش على الاستقطاب ليست وليدة ظرف جيوسياسي طارئ، بل إن الأرضية القيمية المنتشرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين كلها كانت تؤشر إلى المصير الذي عاشته المنطقة لمدة تزيد على الست سنوات. وعلى الرغم من ضعف البحوث السوسيولوجية الكمية في العالم العربي بخصوص القيم السائدة واتجاهاتها، فإن المعطيات التي نتوفر عليها ، على الأقل في المغرب،على قلتها تفيد بأن مسلسل ولادة داعش يمتد عميقا في الزمن.

في المغرب مثلا، في عام 1961 أجرى السوسيولوجي الفرنسي "أندري أدام" بحثا على عينة من الشباب البضاوي والفاسي انتهت إحدى خلاصاتها إلى أن ما كان يهم شباب تلك المرحلة هو حل مشاكلهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولم يعرب سوى ٪5 من المستجوبين على أن الدين مسالة ذات أهمية. ولم يكن سوى واحد في الألف مستجوب ممارسا لطقس ديني وأكثر من٪50 لم يكونوا معنيين بالصوم في رمضان. ارتبطت هذه النتائج بسياق سياسي مغربي يتسم بمرحلة الخروج من الاستعمار والإكراهات التي ترافق المرحلة بتأثيراتها الثقافية والسياسية والاجتماعية.

عشرون سنة بعد ذلك، ستفيد الدراسات  التي أجراها سوسيولوجيون مغاربة أن الدين صار هاجسا إيديولوجيا للشباب. ففي البحث الذي أجراه محمد الطوزي 1980 على عينة (400)من طلبة الدار البيضاء تأكد جليا منحى صعود منسوب القيم الدينية في النسق القيمي للشباب. فحول سؤال "مامعنى  أن تكون مسلما؟"،  اعتبر 5٪ فقط أنه يكفي أن تولد مسلما، و أكد11% من المستجوبين أنه يجب أن تكون مؤمنا بينما اعتبر 15 %  ضرورة ان تكون مؤمنا ومنتميا إلى تنظيم إسلامي. غير أن النسبة الأكثر أهمية هي نسبة 75 % الذين اعتبروا  أن الصلاة شرط ضروري من أجل أن تكون مسلما. أما حول سؤال حضور الدين في كل مجالات الحياة فقد أجاب 72٪ من المستجوبين بالإيجاب عن هذا السؤال.

 دراسات أخرى أجريت حول القيم الدينية لدى الشباب المغاربة مع نهاية الألفية الثانية، ستشير إلى الخط التصاعدي لمنسوب القيم الدينية. واحدة من أهم الدراسات المرجعية حول الموضوع أشرف عليها كل  من رحمة بورقية والعيادي ورشيق والهراس عام 1995 و همت 865 تلميذا . وبالرغم من غنى وثراء الدراسة التي لا يمكن اختزالها في مثل هذا المقال، إلا أن بعض مؤشراتها تبقى عميقة الدلالة من قبيل  تأكيد أكثر من  70% من المستجوبين تماهيهم مع الهوية الإسلامية أكثر من أي هوية أخرى، و حوالي 14 % فقط اعتبروا أنفسهم أولا وقبل كل شئ مغاربة.

هذا التحول ستعززه نتائج البحث الوطني حول القيم المنشور في إطار تقرير الخمسينية الصادر في 2006، حيث أن 72 % الشباب أكدوا قيامهم بالصلاة بشكل منتظم. وبالرغم من هذه النسبة فإن 64% أعربوا عن عدم رضاهم على درجة تدينهم واعتبروا أن تدينهم أضعف من تدين الأجيال السابقة.  لا يمكن أن نعزو هذا التحول إلى معطى سببي واحد، لكن الأكيد أن تأثيرات صعود نجم الحركات الإسلامية كان له بعض الأثر مع تردد صدى "الإسلام هو الحل" من المشرق إلى المغرب وما رافق ذلك من حرب باردة واستعمال الشباب المكثف في أهم مناطق الصراع في العالم وخاصة في أفغانستان والبوسنة بعدها. إن الأرضية الأيديولوجية، كما يقول الراحل محمد العيادي، كانت حاضرة ضمن أسباب هذه التوجهات وخاصة ما أسماه العيادي أسلمة التعليم التى أفرزها صراع الأطراف السياسية ولجوء الدولة إلى الدين لمواجهة معارضيها.

إن التوجه نحو القيم الدينية وبروزها لا يعني بالضرورة التحول إلى التطرف والفوضى والانخراط في الفعل الجهادي كما تؤسس له داعش. إن  التحول من الدين كقيمة وكتصورات إلى الفعل العنيف لا يزال مسارا غامضا من الناحية السوسيولوجية. لكن، حينما يصبح الدين رابطا مختصرا وسهلا يمكن الشباب من حل مشاكلهم الحديثة، يصبح ارتفاع نسبة هذه المشاكل إيذانا بإمكانيات التحول نحو العنف والتطرف.

في مدينة من قبيل الدار البيضاء المغربية، حيث الواجهة الحديثة لمغرب المشاريع الكبرى، يبدو للملاحظ العياني المجرد من الأدوات البحثية، أن سلوك الشباب وطريقة لباسه وتسريحات الشعر، تؤسس فعلا لفضاء حديث كمدينة متربولية مبنية على القيم الفردانية والمجهولية والبحث عن الحرية والاستقلالية. يبدو هذا التصور عاميا وساذجا. في بحثنا الذي أجريناه حول عينة  (1233) من الشباب البيضاوي المتمدرس، والقاطن بمختلف أحياء المدينة، حديثها وقديمها، فقيرها وغنيها، والمنتمي إلى فئة عمرية 15 ـ 24 سنة، اكتشفنا أن أكثر من 80٪ من العينة يعتبرون أن الدين هو أهم شئ في الحياة، وتليه من حيث الأهمية وبفارق كبير الأسرة ورضى الوالدين بـ56٪، ثم العمل والمال والأصدقاء والترفيه بنسب ليست ذات أهمية.

ولمزيد من تعميق فهم توجهات الشباب القيمية، تضمن بحثنا سؤالا نعتبره محوريا. لقد طلبنا من الشباب تحديد الزمن المثالي الذي يرغبون في عيشه. كانت المفاجاة كبيرة حين أفرزت النتائج رغبة أكثر من 62٪ في العيش في زمن الرسول والصحابة. وإذا كان هذا الاختيار مفهوما من الناحية الهوياتية، لما يشكله الرسول كمثال ديني، فإن التبرير الذي قدمه المستجوبون يطرح أكثر من سؤال. تترواح الإجابة عن هذا السؤال بين اعتبار زمن الصحابة والرسول زمنا مثاليا يجب العودة إليه بكل الطرق الممكنة. أما التبرير الثاني، وهو الأكثر دلالة، فيعزو هذه الرغبة إلى توافر إمكانية الموت في سبيل الله والجهاد ضد أعداء الأمة.

دون أن يكون في منطقنا اتجاه نحو إصدار أحكام قيمة. نتساءل أليست هذه هي نفس المبررات التي تسوقها داعش للاستقطاب، أليست هذه القيم هي ذاته التي تشكل ما سميناه الفضاء القيمي لتحقق تمدد داعش السوسيولوجي؟

لم تأت ثقافة الموت هذه من الفراغ. وإذا كان من الصعوبة الربط السوسويولوجي بين المعتقدات وأسباب بعينها، فيمكننا أن نورد على سبيل الاستئناس المعطيات الكمية الصادرة عن مندوبية التخطيط حديثا: إن نسبة التمدرس بين الشباب البالغ  15ـ24 سنة لم يتجاوز 60% كما أن نسبة الهدر المدرسي لا تزال تصل إلى 200 ألف تلميذ، ويصل معدل البطالة بين هذه الفئة إلى 18,6 % أي ضعف النسبة على الصعيد الوطني. وإلى جانب هذه الشروط الحياتية الصعبة التي تواجه الشباب، وفي الوقت الذي أبانت فيه هذه الفئة خلال الربيع العربي عن بعد احتجاجي واضح، وانخراط مستمر في صيرورة التغيير، لا تخصص الجهات الرسمية سوى 0,67 % من الميزانية العامة للدولة للترفيه، و0,23% لقطاع الثقافة.

لا نورد هذه المعطيات لأننا نومن بوجود حتمية سوسيولوجية تربط ربطا حتميا وماركسيا بين البنية التحتية والبنية الفوقية، لكننا نعتبر بأن التهميش يفرز لدى الفاعل العقلاني استراتيجيات مختلفة للبحث عن مخارج. هذا المخرج كان متمثلا في بداية التسعينات في ركوب قوارب الموت والمغامرة بالجسد أملا في الخلاص، غير أن تراجع الاقتصاديات الأوروبية وتصاعد الحملات والخطابات المعادية للمهاجرين وتشديد إجراءات الهجرة، جعل من البحث عن استراتيجيات جديدة للخروج من الأزمة أمرا ملحا بالنسبة للشباب.

عقلانية الفاعل الباحث عن مخرج لأزماته الاقتصادية تجعله مستعدا لتقبل الأفكار والمعتقدات والإيديولوجيات القائمة والسهلة. وهنا تشكل "الدعشنة" إحدى المداخل السهلة أمام انسداد الآفاق، وتصبح قاب قوسين أو أدنى كخيار بديل، وإن بدا لا عقلانيا، فإنه يحمل معنى بالنسبة للفاعلين المحملين بإرث أيديولوجي يعتبر أن دولة الخلافة مسألة لا جدال فيها وأن تحققها مسألة وقت فحسب.

إن الدعشنة لا تعني، هنا حمل السلاح، كما لا تعني الانخراط في الفعلي الجهادي من قبيل ما يحدث في سوريا والعراق، لكن المفهوم يحيل إلى أرضية قيمية خصبة تنبنى على أساس سيادة اتجاه نحو إقصاء الآخر واعتبار الذات مصدرا للحقيقة وأن كل"غير" هو بالضرورة عدو ما لم ينخرط في منظومتي القيمية، في طريقة إدراكي وتصوري  للعالم.

لا يمكن إذن الجزم سوسيولوجيا بانتهاء داعش مادامت الأرضية القيمية لبنائها وتطورها مستمرة في الزمن. والمؤسف أيضا، أنه وبالرغم من المحاولات التي يمكن القيام بها لتقويض الدعائم المادية لنشاة داعش فإن المعتقدات والقيم والإيديولوجيات التي أفرزتها ستعمر طويلا، لأن للقيم زمنيتها الخاصة المختلفة عن زمنية البنيات المادية. وعليه ينتظر العالم العربي عمل طويل لا يمكن أن يكون سوى تظافرا للجهد السوسيولوجي في الفهم والجهد السياسي في الدمقرطة والعقلنة والتحديث في المدرسة، والإعلام والمسجد وكافة فعاليات المجتمع المدني.