يعتبر محمد سبيلا واحدا من المفكرين المعاصرين المغاربة الذين طبعوا الساحة الثقافية والفكرية المغربية بل والعربية منذ أكثر من خمسين سنة. كيفيا، اشتغل سبيلا على التقليد والحداثة وإشكالاتها العويصة كموطن داء المجتمعات العربية التي لم تستطع لحد اللحظة إيجاد التوليفة المناسبة للخروج من زمن الانحطاط. أما على المستوى الكمي، فإن تعريفه القارئ العربي على أحدث منتجات الفكر الإنساني المعاصر من خلال ترجمات كلاسيكياته في الفلسفة وعلم النفس والابستيمولوجيا، يشكل قيمة إضافية طبعت ذاكرة أجيال متلاحقة من الباحثين.
في كتاب مسار مثقف حداثي حوارات مع محمد سبيلا في الثقافة والسياسة الذي أصدره المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية بتعاون مع دار الأمان ومنشورات ضفاف ومنشورات اختلاف، يعود الباحث محمد الأندلسي إلى سيرة سبيلا "منذ إختياره دراسة الفلسفة وتدريسها والنضال من أجل تلقينها في الجامعة، وكيف جعل من الحداثة مجالا استأثر بدراسته ورصد أثرها على الوعي العربي؟ متسائلاً عن علاقة الحداثة بالتراث باستعمال نظرية نقدية صرفة وكيف اختار الثقافة دون أن ينعزل عن السياسة و خباياها".
يحاول الكتاب الوقوف عند أهم المنطلقات الفكرية والحياتية لمثقف مغربي عربي حداثي له تميزه الخاص في الحقل الثقافي المغربي والعربي، وله مساهمات قيمة في نفض الغبار عن التأخر الفكري والقيمي للمجتمعات العربية المصدومة بقيم الحداثة الغربية نتيجة الصدمة المرتبطة بالغزو الاستعماري منذ القرن الثامن عشر.
لقد ارتبطت الحداثة حسب سبيلا ارتباطا وثيقاً بالإحتكاك بالعالم الغربي الأوربي، ولم تكن وليدة نتاج حراك داخلي مجتمعي، هذا الوضع أسفر عن حالة خاصة يعيشها المثقف العربي الحداثي الذي يفتقد لسند، مما يجعله بين سندان مجتمع متمسك بالتقاليد البائدة، وبين سلطة حاكمة يرفض الإنبطاح لأهوائها وتدجيناتها. لكن ورغم قوة منهجيته البحثية واعتماده على أدوات علمية صارمة، ظل محمد سبيلا نموذجا لهذا المناضل المفكر المثقف الذي فهم وخبر الوضع السائد في مجتمع عربي متخلف بنيوياً وقيمياً، فتحليلاته لها عمقها ودلالتها وتعتبر تشخيصاً دقيقاً لحالة مرضية فكرية.
وتأتي أهمية الوقوف عند فكر سبيلا، يقول المؤلف في تقديمه، من"الأهمية القصوى للعمل التشخيصي الذي يمارسه الأستاذ محمد سبيلا في معظم أعماله، والذي يندرج في إطار تحليل نفساني للثقافة الإسلامية متجاوزا بذلك حدود وافق هذه الثقافة التي ذاقت ذرعا بوجود الفيلسوف طوال تاريخها، ولم يخطر ببالها بتاتا أن تهيئه وأن تسند له مهمة القيام بهذا الدور الإسعافي".
وبقدر ما يعود الكتاب إلى المنطلقات الفكرية لمحمد سبيلا، بقدر ما يغوص عميقا في عوالم الثقافة، الفكر والسياسة عن طريق مجموعة من الحوارات، أنجزتها وسائل إعلام أنجزتها وسائل إعلام مغربية وعربية مع المفكر سبيلا، على مراحل وتواريخ مختلفة. في محاولة لتقديم أفكار وتحليلات المفكر في مجالات عدة مما يمكن من فهم أعمق وبناء متراص للافكار وإشكليات الحداثة والفلسفة التي تناولها الحداثي سبيلا في مساره الفكري السياسي والأكاديمي.
وتؤرخ الحوارات لسيرة الكاتب الفيلسوف منذ نشأته الأولى وتأثره بمحيطه العربي الأمازيغي التحرري من الإستعمار والوصاية، إلى دراسته وميولاته الفلسفية وتقلده مهمة تدريس الفلسفة بالمستوى الثانوي ثم بعد ذلك الجامعي مروراً باشتغاله بالميدان السياسي ثم تفرغه للفكر والثقافة دون التنصل من دور السياسي المفكر.
في هذا الكتاب نكتشف جوانب عدة من شخصية المفكر سبيلا ، الإنسان المثقف الملتزم والمناضل الذي عاش أحداث سياسية حفرت ذاكرة المغرب الحديث، وكذلك ينبش في مساره وحيرته في الإختيار بين الثقافة والسياسة ثم استسلامه لعالم الفكر والثقافة، دون أن يتخاصم وينفصل عن الشأن السياسي الذي أصبح يمارسه من داخل الحقل الفكري، بنوع من النقد الملتزم بقضايا المجتمع وبحركية التاريخ بعيداً عن التحيز لتوجه سياسي معين.