كثيرا ما نسمع أصواتا منتقدة تتهم اقتصاد السوق والرأسمالية بأنهما يجعلان حياة الفقراء أسوأ حالا، وما من شك بأن هذه الاعتقاد المكرر ينتشر في قاعات الدراسة ضمن المؤسسات الأكاديمية ذات التوجهات اليسارية بالإضافة للدوائر الفكرية الأوسع، لكن هذا الانتقاد، وحاله في ذلك كحال الكثير من الانتقادات الموجهة للرأسمالية، يتجاهل الحقائق التاريخية الواقعية الواضحة للعيان أمام كل بني البشر.
إذا قلبنا صفحات تاريخ الإنسانية فسنجد أن اقتصاد السوق لا يدانيه أمر آخر في ما فعله لانتشال البشر من مستنقع الفقر، وليس هنالك ما يفند صحة هذا الزعم سواء كانت المدة المدروسة تمتد على عدة عقود أم عدة قرون، فعدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولارين يوميا في يومنا هذا أقل من نصف ما كان عليه في العام (1990)، ولقد تحققت أكبر مكاسب الصراع ضد الفقر في البلدان التي فتحت أبواب أسواقها، كالصين والهند.
وإذا تفحصنا صحة ذلك الزعم على ضوء حقبة تاريخية أطول أمدا، فسنلاحظ بأن المسارات الحالية ليست سوى استمرار لانتصارات الرأسمالية أمام الفقر؛ فعلى امتداد معظم تاريخ الإنسانية عاش البشر في عالم يقل فيه (من يمتلكون شيئا) ويكثر فيه (من لا يمتلكون أي شيء)، لكن هذا الواقع بدأ يتغير على نحو بطيء مع قدوم الرأسمالية والثورة الصناعية؛ ومع انطلاق النمو الاقتصادي وانتشاره ليطال كل الناس أدى ذلك إلى خلق العالم الغربي الذي يتصف بكثرة (من يمتلكون أشياء) وقلة (من يمتلكون أشياء أكثر وأفضل من أشياء الآخرين).
وعلى سبيل المثال: إن نسبة الأسر الأمريكية التي تقع أسفل خط الفقر وتملك في الحين ذاته الأجهزة المنزلية الأساسية قد ارتفع بشكل مستمر خلال العقود القليلة الماضية، فالأسرة الفقيرة التي تنتمي لهذه الشريحة أصبح من المرجح أكثر امتلاكها لآلة تجفيف الملابس أو آلة غسيل الصحون أو الثلاجة أو مكيف الهواء بالمقارنة مع أسرة مماثلة في العام (1971). أما السلع الاستهلاكية التي لم توجد أصلا في العام (1971)، كالهواتف المحمولة، فلم يكن يمتلكها في العام (2005) سوى نصف الأسر الفقيرة، وفي يومنا هذا تمتلك الأغلبية الغالبة من الأسر الفقيرة أمثال هذه السلع. ويضاف إلى ما سبق أن الرأسمالية جعلت حياة الفقراء أفضل بكثير من خلال تخفيض معدلات الوفيات بين الأطفال والمواليد الجدد، وبإضافة عشرات من السنين إلى العمر المتوقع لكل إنسان.
وتجدر الإشارة أيضا إلى الكيفية التي أدى بها (محرك النمو) الرأسمالي إلى تمكين كوكبنا من توفير مستلزمات معيشة ما يقرب من سبعة مليارات إنسان، بالمقارنة مع مليار واحد في العام (1800)، وتعبّر الخبيرة الاقتصادية ديريدر ماكلاوسكي عن ذلك بقولها بأنك إذا أخذت مقدار المكاسب التي تحققت في استهلاك الفرد العادي وضربته بالمكاسب المتحققة في العمر المتوقع لكل فرد على مستوى العالم، ثم ضربت الحصيلة بسبعة (سبعة مليارات إنسان مقابل مليار واحد في الماضي)، فستتوصل إلى أن البشرية أصبحت أحسن حالا بمقدار (120) ضعفا، ويجب الانتباه هاهنا: فالتحسن ليس أفضل بمقدار (120%)، وإنما بمقدار (120 ضعفا).
كما إن العملية السوقية التنافسية أدت أيضا إلى جعل التعليم والفن والثقافة من الأمور المتاحة للمزيد والمزيد من الناس، فحتى أفقر الفقراء الأمريكيين، ناهيك عن غيرهم من الكثير من فقراء العالم، يستطيعون الاطلاع من خلال شبكة الانترنت على حفلات موسيقية وكتب وأعمال فنية كانت في ما مضى حكرا على الأغنياء طوال قرون وقرون. ومن الملاحظ في الدول الأكثر ثراء بأن آليات الرأسمالية بدأت بإحداث تغييرات في طبيعة العمل نفسها، ففي الأماكن التي كان الإنسان يكدح فيها خلال عمل يقصم الظهر تحت أشعة الشمس طوال أربع عشرة ساعة في اليوم الواحد، أصبح الكثير من الناس يعملون في بيئات عمل مزودة بمكيفات الهواء، كما إن عدد ساعات العمل اليومية أو الأسبوعية تقلص أيضا بفضل الارتفاع الكبير في قيمة العمل المتأتية من استثمار الرأسمال الإنتاجي. لقد أصبحنا نمضي نسبة أقل بكثير من حياتنا في العمل المأجور، سواء كنا من الأغنياء أو من الفقراء. وحتى مع التغير الاقتصادي المستمر، فإن دخل الفقراء يمر بقدر أقل بكثير من التغيرات بالمقارنة مع ما كان عليه الحال سابقا، فهذا الدخل لم يعد يرتبط بالتغيرات غير المتوقعة للمناخ، وهو أمر كان يشكل جزءا حتميا من النمط الاقتصادي البائد الذي هيمنت عليه الزراعة.
سأضرب المثال التالي لتوضيح ما حصل: كان الملوك القدماء أولو الثروات الهائلة يمتلكون طبقة من الخدم تلبي جميع رغباتهم، لكنهم كانوا معرضين للموت بسبب التهاب في الأسنان، أما في يومنا هذا فإن الفقراء في معظم البلدان الرأسمالية يمكنهم الحصول على سوية معينة من الرعاية الصحية وعلى مجموعة متنوعة جيدة من الغذاء لم يعرفها الملوك القدماء إلا في أحلامهم. ولنتأمل أيضا حال العامل في لندن قبل قرن من الزمان، ففي أفضل الحالات كان هذا العامل يتمكن من الحصول كل أسبوع على رطل من اللحم يوزعه بين أطفاله، والذين كان عددهم في كل أسرة أكثر بكثير من مجرد طفلين أو ثلاثة كما في عصرنا الحالي، كما إن الأسرة بأكملها لم تكن تأكل حصتها الأسبوعية الوحيدة من اللحم إلا في يوم الأحد، حين يتناول الأب غداءه وسط أسرته في يوم العطلة.
لنقارن الماضي بالحاضر: إذ نجد اليوم من يقلق بشأن السهولة الشديدة التي يتمكن بها الفقير الأمريكي من توفير ثمن وجبة تحوي ربع رطل من اللحم بشكل يومي دون أن يكلفه ذلك سوى أقل من ربع أجر ساعة عمل. أما من يعتقد بأن الرأسمالية أصابت الفقراء بزيادة الوزن فإن اعتراضه هذا يعد من الإنجازات الكبرى بالمقارنة مع ما كان عليه الحال قبل الرأسمالية، إذ كان سوء التغذية سائدا بين الناس، وكان العامل الفقير قبل مئة عام يعاني الأمرّين في عمله حتى يحصل على قوت من لا يموت.
إن حقائق الواقع تفيد بأن الأغنياء عاشوا بشكل جيد على امتداد التاريخ، حيث استطاعوا طوال قرون أن يجندوا العمل البشري لتلبية احتياجاتهم كلها، وكان الفقير في مرحلة ما قبل الرأسمالية لا يمتلك أي أمل في الانتقال إلى طبقة أعلى، أو في الخلاص من الكدح البدني بلا نهاية من أجل الحصول على بضع لقيمات لا تكاد تقيم أوده. أما في يومنا هذا فإن الفقير في البلدان الرأسمالية يعيش كملوك العصور الماضية، والفضل في ذلك يعود بمجمله إلى تحرير العمل والقدرة على مراكمة رأس المال مما يجعل العمل أكثر إنتاجية ويجعل الغنى يصل إلى أفقر الفقراء. وإن التكلفة المنخفضة باستمرار لما كان يوما من أسباب الرفاهية وأصبح اليوم من الضروريات، بفعل السوق التنافسية وما تطلقه من إشارات الربح والخسارة، قد جعلت الناس يتمتعون باستخدام الآلات التي تختصر العمل.
عندما أصبح الابتكار والسعي إلى الربح من السلوكيات المقبولة للطبقة البرجوازية تفجرت ينابيع الثروة وأغدقت عطاءها على الناس، واستطاع حتى أفقر الفقراء أن يشترك في الثروة الناتجة. وما أن تخلص الناس من الحاجة إلى الحصول على ترخيص لمزاولة الابتكار، وما أن أصبحت قيمة الابتكارات الجديدة تتحدد بما تدخله من تحسينات على حياة الناس بصورة أرباح أو خسائر، تمكن الفقراء من عيش حياة تتصف بالراحة والكرامة.
قد يقول البعض بأن هذه التغييرات حدثت على يد التقدم التقني، وهؤلاء نقول لهم بأن الاتحاد السوفييتي كان يملك عددا من العلماء العظماء لكنه لم يتمكن من تحويل المعرفة إلى أدوات مادية تريح الفقراء؛ وقد يرى البعض بأن الموارد الطبيعية هي المسؤول، لكن من الواضح أن هونغ كونغ تُعدّ من البلدان الغنية على الرغم من فقرها بالموارد الطبيعية، فالفضل في ذلك يعود للرأسمالية، وأمامنا اليوم فنزويلا الغنية بالموارد الطبيعية وهي تعاني الدمار على يد نظامها الاشتراكي.
إن الاختراعات لا تتحول إلى ابتكارات إلا إذا وُجِدت المؤسسات المناسبة التي تمكّنها من تحسين حياة الناس، وهذه هي المهمة التي مارستها الرأسمالية، ولا تزال تمارسها في كل يوم وكل ساعة، وهي السبب في الفائدة الكبيرة التي تحققت للفقراء.
وفي نهاية المطاف لنتأمل ما حدث عندما قررت السلطات السوفييتية عرض الفيلم السينمائي المقتبس عن رواية (عناقيد الغضب) كدعاية إعلامية لمواجهة الرأسمالية: ففي الرواية والفيلم تجد إحدى الأسر الأمريكية الفقيرة نفسها مجبرة على النزوح من منزلها في أيام (الكساد العظيم) بسبب القحط والعواصف الغبارية التي اجتاحت أجزاء واسعة من الولايات المتحدة الأمريكية في ثلاثينيات القرن الماضي، فتستقل سيارتها القديمة وتقوم برحلة مرعبة بحثا عن حياة أفضل في ولاية كاليفورنيا؛ لكن السلطات السوفييتية اضطرت للتوقف عن عرض الفيلم بعد مدة قصيرة لأن المشاهد الروسي تفاجأ من قدرة فقراء الأمريكيين على امتلاك سيارة؛ وهذه الحادثة تشير إلى أن الدعاية المعادية للرأسمالية نفسها لا تستطيع إلا أن تقدم دليلا يتناقض مع حججها، فالحقيقة التاريخية تقول بوضوح: إن الفقراء لم يستفيدوا من أي شيء بقدر استفادتهم من الرأسمالية.
ستيفين هورويتز
أستاذ علم الاقتصاد، جامعة سانت لورانس
ترجمة: علي الحارس