صدحت الحناجر: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وكان المعني بـ(النظام) السلطة المستبدة التي حكمت شعوب العالم العربي بالحديد والنار منذ خمسينيات القرن العشرين، فتهاوى الصرح الورقي غير مأسوف عليه، لكنه جرّ معه (النظام الآخر)، أي النسق الاجتماعي، وتفاوتت النتيجة من فوضى أهلية كما هو الحال في مصر وتونس، إلى حرب أهلية واسعة النطاق كما في سوريا وليبيا. وقد أدت هذه النتيجة بكثير من المنادين بإسقاط الأنظمة السابقة إلى أن ينادوا بعودتها استنادا إلى المقولة القديمة: «سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم»، وأصبح من الصعب الوقوف في وجه هذا الرأي لكثرة ما أريق من الدماء، ففي سوريا وحدها تشير أحدث التقديرات إلى سقوط ما يقارب (370 ألف قتيل) في الحرب الأهلية التي اندلعت بعد تبني "النظام" السوري لمنهج (الأسد، أو نحرق البلد) في مواجهة موجة التغيير التي عصفت بالمنطقة.
لقد أصبح من المألوف أن تسمع مثقفين مرموقين وهم يعلون من شأن الأنظمة الاستبدادية لا لشيء إلا محافظتها على (النظام)، ناهيك عن مهاجمة مفاهيم (الحرية) و(الفردانية) و(الاستقلالية)، بل إن هنالك من لا يجد حرجا في القول بأن شعوب العالم العربي لا يمكن حكمها إلا تحت ظل (البيادة) أو (البسطال) أو (البوط) مع تعدد أسماء (الحذاء العسكري) في اللهجات العربية، وافتخرت إحدى الإعلاميات العربيات المرموقات بتقبيلها لهذا الحذاء على مرأى ومسمع الملايين. وهكذا أمكن الترويج لنسخة محدثة من الأنظمة الاستبدادية القديمة بحجة تمكُّنها من توفير النظام مقابل العجز (النسبي) الذي أبدته في هذه المجال كل الحكومات التي أنتجها الربيع العربي، وذلك على الرغم من الأدلة الكثيرة التي تشير إلى تورط بقايا الأنظمة السابقة (الفلول) في ما حدث بعد سقوطها من حرب أهلية وفوضى واعتداءات على الممتلكات العامة والخاصة.
ومما زاد الطين بلة أن المعسكر المواجه لهذه الأصوات لم يقدم بديلا، على المستويين النظري والواقعي، غير الحديث الإنشائي المكرَّر عن (قوة الجماهير) و(ما سينجبه رحم الثورة) و(البديل الإسلامي) وغيرها من الشعارات التي أذكت نار الفوضى وساهمت في إنتاج المسخ المعروف بـ(داعش) أو (الدولة الإسلامية). وكان معسكر (السلطان الغشوم) المستفيد الأكبر من هذه الشعارات، وقدّم نفسه بديلا عمليا يستطيع فرض النظام على أرض الواقع بالحديد والنار، وانهزم المعسكر المضاد بعد أن انكشفت أوراقه الهزيلة وفقره الفكري المدقع الذي يخفيه خلف مقولات أكل عليها الدهر وشرب، سواء كانت من الفكر اليساري الذي ورث الأحزاب الشيوعية، أم من الفكر الإسلاموي الذي لا يزال يحاول اعتصار التراث الإسلامي لتقديم أفكاره الاستبدادية بحلة دينية (طُهرانية).
إن من يتتبع سيرة الشعوب العربية إبان حقبة (ما قبل الربيع العربي) يجد أنها حققت (النظام/ النسق) من خلال التعايش مع (النظام/ السلطة)؛ حيث تقبّلت، على مضض، أحكامه (الرسمية) الجائرة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وأنشأت أحكامها (اللارسمية) الخاصة بها في هذه المجالات. ومن يدرس جوانب الحياة في ظل النظامين العربيين الأشد استبدادا، أي: النظامين الصدّامي في العراق والأسدي في سوريا، يجد أن شعبي هذين البلدين استطاعا التعايش مع نظاميهما وتحقيق حالة من النظام وفقا للمثل السائد (لا يموت الذئب، ولا يفنى الغنم): فكانت (السوق السوداء) توفّر احتياجات الناس في المجال الاقتصادي على الرغم من المعوقات الدولتية للنشاط التجاري، وكانت (أحكام الشريعة والأعراف العشائرية) تنظم شؤون المجتمع على الرغم من القوانين (العلمانية) المفروضة على الناس لإذلالهم، وكانت هنالك مجموعة من (الأعيان) في كل مدينة وبلدة وحي يهرع إليهم الناس لحل المشكلات والنزاعات على الرغم من وجود (نواب) صوريين في (مجلس نواب) مزيف، ناهيك عن الوسائل السرية لتبادل ونشر المطبوعات الممنوعة التي لا تتماشى مع وجهة النظر الدولتية.
لكن تجربة السوق السوداء لم تتحول إلى بديل للواقع الأسود الذي فرضته الأنظمة الاستبدادية، فالمفكرون والمثقفون الذين رفعوا راية التغيير، وفي مقدمتهم الإسلامويون، لم يكونوا يحملون إلا اليافطة الاستبدادية نفسها بلون آخر، فانهزموا أمام أول احتكاك لهم مع مشكلات الواقع بسبب افتقارهم إلى التراث التراكمي الذي كان يدعم الحكم الاستبدادي السابق، وظلوا يتذرعون بحجة واهية مفادها أنهم لم يحصلوا على الوقت الكافي لتطبيق مشروعاتهم، وكأنهم يريدون بهذه الحجة أن يصبر الناس عليهم كما صبروا على من سبقهم سنين طويلة، وهيهات!
وفي هذا المفصل التاريخي تطرح الحوكمة نفسها منهجا للعمل بعيدا عن ذهنية (الدواء الذي يشفي من كل داء)، فهي توفر الإطار القانوني والاجتماعي اللازم لتنسيق الحقوق والواجبات وفرض تنفيذ العقود وتسهيل عملية التبادل، وذلك دون الحاجة إلى الدولة وحكومتها التي لا يدري أحد متى ستستقر على صيغة تؤمّن بيئة موثوقة لتأمين الاحتياجات الأساسية اللازمة للإنسان، دون الحديث عن الإنتاج والتبادل التجاري. وما أسلفنا الحديث عنه لا يخرج عن إطار (الحس السليم)، فكل تصرف يشترك فيه شخصان أو أكثر يحتاج إلى إطار تنسيقي ما، بدءا من المحادثات اليومية وانتهاء بأعقد أنواع التبادل التجاري بين أطراف المعمورة، لكنك ستجد من يرفع صوته بالتباكي والصراخ حول مصير الدولة المتمثلة بيدها الضاربة على أرض الواقع، أي: (الحكومة)، ويرمي التهم يمينا وشمالا حول "المؤامرة الكونية" لتفكيك المنطقة وغيرها من الهراء الذي ما انفك يغزو وسائل الإعلام العربية منذ ظهور أول الأصوات الشعبوية فيها، دون أن يتوقف لوهلة ليلاحظ أن (الحكومة) نفسها ليست سوى شكل من أشكال (الحوكمة)، وأن الحد المقبول لمفهوم (الدولة) نفسه يجب أن لا يتعدى هذا المقدار؛ ولسنا بحاجة لتبيان ما يجري عند تخطيه، فالعالم العربي يغص بالدماء والدموع التي انسكبت خلال تجربة (الدولة الوطنية) إبان القرن الماضي.
ولنا في تجربة الضوابط القانونية الناظمة لـ(المجمعات السكنية) خير مثال، فهذه المجمعات ظهرت في العالم العربي قبل (الربيع)، وكانت ملجأ للفارين من فشل الحكومات العربية في تأمين احتياجات الناس، واستطاعت أن تشكل (نطاقات حوكمة) شبه مستقلة عن نطاق (الحكومة)، فتمتعت بمستوى ممتاز من الخدمات المتنوعة، كالأمن والكهرباء والمياه والمرافق التعليمية والترفيهية؛ لكن ظهور هذه المجمعات لم يرافقه تطور في ذهنية الأنظمة الحاكمة بشأن استقلاليتها الضرورية، بل إن هذه الأنظمة عملت بشتى السبل على تدمير التجربة الوليدة من خلال تقويض استقلالية المجمعات السكنية ومعاملتها كباقي المدن والقرى، وذلك بسبب السيطرة الكاملة للأنظمة الحاكمة على المرافق والخدمات الحيوية، وإغلاقها الباب بشكل محكم في وجه أي منافسة في هذا المجال، سواء كان ذلك باستعمال الضوابط القانونية أم بالدعم المالي الحكومي لهذه المرافق والخدمات على نحو يجعل أسعارها أقل من تكاليفها الحقيقية بكثير.
ومن مزايا (الحوكمة) أنها تعتمد على دافع (الربح) في حل مشكلات الحياة اليومية، وهنالك الكثير من الخدمات التي كانت تقدمها الحكومات ثم أصبح القطاع الخاص يقدمها بسبب يأس الناس من تحسن الخدمات، أو بسبب قدرة القطاع الخاص على تقديمها على نحو أفضل وبسعر أقل (وذلك ليس منّة وتفضلا منه وإنما لأن هذه الخدمات تشكل فرصة للربح). ويوضح الخبير الاقتصادي إدوارد سترينغهام، مؤلف كتاب (الحوكمة في القطاع الخاص.. إنشاء النظام في الحياة الاقتصادية والاجتماعية)، هذه النقطة بقوله في مقابلة إذاعية: «إن الفرق الأكبر بين الحوكمة في القطاع الخاص وبين المنهج الإجباري للحكومة في القطاع العام يكمن في أن أي مشكلة تنشأ في القطاع الخاص تُعتبَر فرصة محتملة لتحقيق الربح، وكلما زادت احتمالية تحقيق الربح زاد معها عدد الأشخاص الذين يأملون بتحقيق الأرباح عن طريق التوصل إلى حلول لتلك المشكلات". وإذا قمنا بمقارنة ما طرحه سترينغهام مع ما يحصل في المنهج الحكومي لحل المشكلات فسنجد أن الحكومة لا تفعل سوى العكس تماما، فأي مشكلة تنشأ ليست سوى فرصة لتكبّد الخسائر، لأن الاستجابة الحكومية تتلخص في واحد أو أكثر من التصرفات التالية: تخويل إحدى الشركات الحكومية التي يستلم موظفوها رواتب ثابتة بغض النظر عن إجادتهم لأعمالهم، أو تخويل شركة من القطاع الخاص عبر مناقصات يشوبها الفساد وتهتم بتقديم أسعار منخفضة بغض النظر عن النتائج النهائية.
إن ثنائية (الحكومة والحوكمة) تتصف بأهمية استثنائية في المنطقة العربية، فالانتقال التدريجي إلى الحوكمة بسبب الفشل الحكومي يعاني من منافسة بديل آخر، وهو (الأداء الحكومي المستند إلى محفز الجزاء الأخروي)، وهو الذي اعتمده تنظيم (داعش) منهجا لإدارة الدولة، فهو لا يحتاج سوى إلى المحفزات الموعودة في مرحلة ما بعد الموت، سواء كانت محفزات روحانية (كتحصيل الرضى الإلهي) أو محفزات جسمانية (كتوفير أعداد كبيرة من النساء المخصصات للجنس)، من أجل حث المنخرطين في أعمال الدولة بتنوعاتها على إتقان العمل وتقديم الخدمات، ناهيك عن أن إتقان العمل الناتج عن هذا الأسلوب يتيح توفير الأموال اللازمة لتحفيز من التحق بداعش لأغراض دنيوية. وهنالك الكثير من الأصوات التي تطالب من يرغب باستعادة المناطق التي احتلها داعش بأن يوفر ما وفرته من خدمات قبل أن يفكر في استمالة الناس إليه قبل الشروع بالعمل العسكري، إذ استطاع داعش أن يمد خدماته لمجالات لا تستطيع الحكومة التقليدية أن تقترب منها، كفرض بعض أعراف السلوك العام وحظر استهلاك بعض المواد الضارة ناهيك عن تحقيق الانسجام الديني (وإن كان ذلك يعني سحق المخالفين بأجمعهم).
وعلى الرغم من أن النهاية العسكرية لداعش قريبة ولا تحتاج سوى التوافق بين القوى الدولية المعنية بشؤون المنطقة، فإن (البديل الداعشي) سيظل يسكن ذاكرة من عايشه واستفاد منه في المناطق التي تعتنق معتقدات دينية قريبة من المعتقدات الداعشية؛ وهذا الواقع يجعل مهمة تحرير هذه المناطق تحتاج إلى أكثر من مجرد التنظير على المستوى الديني، إذ يجب أن يرى سكان هذه المناطق بأنفسهم، وعلى أرض الواقع، أن البديل المقترح ينتج حياة أفضل، وهذه مهمة صعبة جدا في ضوء الخدمات التي قدمها داعش لهؤلاء، بل إنها تتحول إلى مهمة مستحيلة عند النظر إلى البديل المنشود، وهو بديل لا يتعدى إعادة النهج الحكومي الذي كان معتمدا في المرحلة التي سبقت احتلال داعش لهذه المناطق. وقد يكون الخيار الفيدرالي الموعود قادرا على تحسين الأوضاع بعد داعش، لكن هذا الخيار يكتفي بإعطاء صلاحيات أوسع للمنهج السابق، ولا يتطرق لتغيير المنهج نفسه، وهذا يعني العودة إلى نقطة البداية والاكتفاء بتغيير الوجوه وحسب، فعوضا عن أن يكون الفاشل الفاسد الذي يدير المنطقة من خارجها، أصبح من الممكن لهذه المناطق أن يديرها فاشل فاسد من أبنائها، بعد أن نجح في إدارتها (على نحو ما) شخص لا يمت لها بصلة.
إن (الحوكمة) لا تعبأ بالترتيبات السياسية التي تسود منطقة ما، ولا بالاختلافات العرقية والدينية فيها، ولا تسعى إلى زيادة تمثيل هذه الطائفة أو تلك، وذلك لأنها منهج إداري يسعى لتحقيق الأهداف المطلوبة من أي كيان حكومي في نطاق جغرافي ما، أما (الحكومة) فهي في صميم الترتيبات السياسية، وتتعامل مع الخدمات الحكومية كوسيلة لا غاية، ولذلك يصح إطلاق اسم (السلطة) عليها أكثر، وهو ما عليه واقع الحال، فمصطلح (الحكومة) في اللسان الشعبي يعني خليطا واسع النطاق من: الدولة والبرلمان والجيش والشرطة ورئيس الجمهورية وأجهزة الاستخبارات وحتى رجال الدين في بعض الحالات.
ومهما كان واقع الحكومة وفشلها أو نجاحها في العالم العربي، ومهما كانت المعوقات التي تضعها في وجه (الحوكمة)، فإن حجم الأخطار والتحديات التي تفرضها حقبة (ما بعد الربيع العربي) تجعل مهمة إدارة البنى الاجتماعية الجديدة في صدارة قائمة المسؤوليات التي تقع على كاهل كل سلطة ترغب بالحكم، سواء كانت ديمقراطية أم لا، وسواء كانت محلية أم فيدرالية أم مركزية، لأن الأسباب التي أطلقت شرارة الحراك الاجتماعي جاءت أولا من فشل ذريع طويل الأمد ما زال يضرب أطنابه في المنطقة منذ ظهور النموذج الأول للدولة الوطنية في المنطقة، وهو الذي أسقط (الأنظمة الملكية) في الخمسينيات، وأسقط (الجملوكيات) في حقبة الربيع العربي، وأسقط (حكومات الربيع) في مصر وتونس وليبيا، وسيسقط (حكومات ما بعد حكومات الربيع) تاليا. وفي غمار هذه التغييرات المتلاحقة يبدو شبح (البديل الداعشي) كمرشح سريع يوفر حلا فوريا يدغدغ أذهان الشعوب وإن كان لا يتحقق إلا بسفك الدماء وانتهاك الحرمات واستباحة الأملاك، فالشعوب العربية اعتادت على ان تكون ضحية للسفك والانتهاك والاستباحة طوال سنوات وسنوات، وما سيحدث في ظل داعش لن يختلف عما حدث سابقا إلا بجودة الإخراج واختلاف الأسلوب وتغير الوجوه، لكنه سيحقق في الوقت نفسه مطالب شعبية تغفر لهذا التنظيم وحشيته، وهو مكمن الخطر الأكبر.