تتراوح نسبة مخزون العنف في كل الديانات وفي كل الثقافات هناك مخزون عنف مضمر وكأنه سلاح احتياطي لا يستعمل إلا عند الحاجة إليه بسبب صراع حول الأرض أو الخيرات أو حول بعض الرموز أو المعتقدات الدينية.
والديانات، من حيث هي نواة كل ثقافة ومدار تصورها للحياة والكون والإنسان والمجتمع والأخلاق، تختزن بدورها احتياطيا من العنف حتى ولو كانت دعواتها وتصوراتها سلمية لأن العنف يتسلط على المجتمعات وكأنه أقرب ما يكون إلى الظواهر الطبيعية العاصفة. فمن هذه الزاوية لا فرق كبيرا بين الأديان من حيث مخزونها الثقافي والنفسي من العنف.
فبالنسبة للديانات السماوية ترى كتبها المقدسة طافحة بآيات العنف والدعوة إلى القتل والجهاد والاستشهاد مثلما تطفح آيات السلم والمحبة.
فالمخزون العنفي -المكتوب والطقسي- هو أعدل الأشياء قسمة بين الديانات، لأن الديانات تتضمن دعوات سلمية ولكنها تجد نفسها مضطرة إما للدفاع أو الهجوم على معادييها أو على خصومها آنيا أو تاليا. فبمجرد ظهور الديانة تجد نفسها منخرطة اضطرارا في مسلسلات العنف الخارجي والداخلي لأن من طبيعة أية عقيدة بما في ذلك العقيدة الدينية أن تنشأ فيها تنافسات ومزايدات حول من يمثل العقيدة وحول مدى صفاء المعتقد وحول كيفية تطبيقه. وهنا يحدث توازن بين الصراع الخارجي والصراع الداخلي اللذان تكاد تحكمهما نسبة عكسية في أغلب الحالات فكلما اصطدم العداء مع الخارج حدث تراص في الداخل، وكلما خفت نبرة العداء الخارجي تهيأت ظروف أفضل للتصارع الداخلي والتنابذ من أجل حيازة المكاسب المادية والمعنوية التي يحظى بها القيمون.
لذلك فالقول بأن هذا الدين أكثر سلمية أو أكثر عنفية من الآخر قول غير دقيق لأنها شبه متعادلة من حيث المخزون النصي والممارساتي ومتفاوتة من حيث قراءة النصوص وتأويلها وقدحها في هذا الاتجاه (السلمي) أو ذاك (الحربي).
كل الأديان تخضع لهذه القاعدة السوسيولوجية التي تقوم على عنصرين:
1. تعادل الأديان من حيث المخزون النصي للعنف
2. أن تفعيل المخزون الحربي أو تفعيل المخزون السلمي يتوقف على القدرات التأويلية لحراس الحقل الديني وحلفائهم السياسيين وعلى الظروف والصراعات داخل كل حقل
هذه القاعدة السوسيولوجية تجعل الادعاء بأن هذا الدين أو ذاك أكثر سلمية هي دعوة ناقصة وتدخل في حيثيات الصراع أكثر مما تعبر عن واقع فعلي.
فسوسيولوجيا الدين وأنتروبولوجيا الدين وفلسفة الدين وكل المباحث التي تتخذ الظاهرة الدينية موضوعا للدراسة تضع لها كشرط ابستمولوجي أساسي عدم المفاضلة بين بنية عقدية وأخرى، وفي عدم السقوط في رؤية الفاعل الاجتماعي الذي يرى أن معتقده هو الأحسن والأمثل والأقرب إلى الله...
تفترض العلوم الاجتماعية والإنسانية أن الظاهرة الدينية هي منظومة معتقدات وممارسات وطقوس خاصة لها تصوراتها وطقوسها واتباعها الذين يميلون إلى "تفسير" وتبرير انتمائهم لها بمبررات النرجسية الجماعية في إطار دعم مشاعر التميز والمركزية وقد ذهب بعض الباحثين في سوسيولوجيا وانتروبولوجيا وتاريخ العنف إلى إبراز الرابطة القوية الداخلية بين الدين والعنف. فالدين ينجح في البداية في إقامة علاقة سلمية بين أعضائه فهو يوحد من حيث أنه يجمع بين الناس في إطار انتماء واحد. فالتوحيد عن طريق الإيمان يحقق شرط الانصهار الداخلي والتلاحم على أساس الانتماء إلى أم أو مرضعة واحدة لكن هناك نوعين من الصراع يتهددان كل جماعة يوحدها معتقد وهما الصراع الخارجي والاقتتال الداخلي. وقد تنشأ بينهما علاقة ارتوازية فالعداء الخارجي يخفف من غلواء العداء الداخلي (الذي يقود نحو الانشقاق) والعداء الداخلي قد ينعكس سلبا أو إيجابا على العداء الخارجي.
وهذه المعضلة تواجهها كل الجماعات العقدية، فإذا كان الدين في البداية يحاول إطفاء نار الفتنة والصراع بين الناس عن طريق توسيع دائرة المنتمين إليه الذين من المفروض أن تنشأ بينهم علاقات سلام وتعاون، لكن بما أنه ليس في استطاعته ضم الجميع فإن جماعات أخرى تظل بالضرورة خارج دائرة هذا المعتقد إما بمثابة راسب أو احتياطي سيؤطره معتقد آخر مما يجعله عرضة للعداء والصراع، ومن ثمة محدودية قدرة أي معتقد ديني على استيفاء مهمة الامتصاص الكامل للعنف.
فالحروب الدينية الداخلية بين الكاثوليك والبروتستانت مثلا في المسيحية أو بين السنة والشيعة في الإسلام أو بين الطوائف اليهودية لا تقل أهمية وكثافة عن الحروب الدينية الخارجية وهي ما يطلق عليها اليوم الحرب بين الثقافات أو صدام الحضارات.
مهما تعقد الصراع بين الديانات وتلون ولبس لبوسات مختلفة كما هو الأمر اليوم في العلاقة بين الحضارة (أو الثقافة) الغربية والثقافات والديانات الأخرى ومن بينها الإسلام وذلك من حيث استقرار التفوق العسكري والاقتصادي والتكنولوجي الغربي سواء نظر إليه من خلال مصطلح العولمة أو حتى من خلال مصطلح الامبريالية فإن المعطى الأساسي من حيث الصراع أو التنافس أو التغالب يظل قائما رغم تدثره بمقولات السلم العالمي والمنظومات الحقوقية المختلفة.
نقول ذلك لا للانتصار للحرب والصراع والتغالب بل لأنبه إلى النقطة التي انطلقنا منها في التحليل وهي منسوب العنف الكامن في كل ثقافة ودين وذلك من أجل تجاوز الحوار التفاضلي ومن أجل تجاوز العنف البيني قدر الإمكان وقبل ذلك من أجل التخلص من الوهم النرجسي بخصوص مدى تمايز الأديان من حيث علاقتها بالعنف.