logo

logo

في أركيولوجيا الشمولية والاستبداد

image

والعالم يرقب بعين مستغربة زحف الفكر الشمولي في شتى صيغه، لابد من طرح سؤال الأصل المرتبط بمنبع هذا الخطر الداهم من كل صوب وحدب. الإيديولوجيات المتطرفة شمالا وشرقا، جنوبا وغربا تأخذ حيزا هاما من السياق العالمي الحالي. في بلاد الاتحاد السوفياتي المنهار، لا تزال النزعات الشوفينية المتدثرة بالوطنية تحاول استعادة مجدها المفقود، وفي الغرب، تطل الإيديولوجيات المتصلبة والمتدثرة بعباءة نقاء الهوية من كل جانب، أما في العالم العربي الإسلامي فتلك قصة أخرى من هيمنة الفكر الشمولي وصولا إلى ما تشهده المنطقة من صيغ دموية تجد في الدين مسوغات لها.

ما أصل الاستبداد والشمولية إذن ؟ وهل من رابط مشترك بين الإيديولوجيات الشمولية وإن اختلفت مظاهرها؟ إن مشروعية طرح سؤال أصل الاستبداد والشمولية يجد في الواقع الدولي الراهن ما يسنده حيث الصورة البانورامية السالفة حالكة السواد تنذر بمزيد من انتشار الإيديولوجيات المغلقة. لكن خلف التعامل الإعلامي المتسرع والمحكوم براهنية اللحظة الخبرية، لا بد من الوقوف قليلا عند بعض العلامات الفكرية المميزة في تاريخ الفكر الإنساني لعلها تنير بعض ما استغلق على الفهم في شأن تنامي أشكال التطرف والانغلاق وتنامي النزعات الشمولية.

في هذا السياق، يشكل كتاب الفيلسوف الألماني كارل بوبر"المجتمع المفتوح وأعداؤه" إطارا نظريا قد يكون ملائما لمحاولة تحليل وتشريح مختلف البناءات النظرية لأنماط الشمولية بمختلف تمظهراتها الاشتراكية، الدينية، القومية والوطنية...إلخ.

لقد كتب بوبر الكتاب في عز الحرب العالمية الثانية هو الذي اضطرته هذه الحرب إلى اللجوء إلى زيلاندا الجديدة هربا من الجحيم النازي. في هذا الكتاب، يعود بوبر إلى أصل الاستبداد والشمولية، ليجد أن أرضيته الصلبة متأصلة في إيديولوجيات متعددة. لكن الاهتمام الكبير في الجزء الأول من كتاب بوبر توجه بالخصوص إلى أفلاطون ونظريته في السياسية وموقع الفرد ضمن "إيديولوجيته" أو لنقل بنائه النظري.

تعود الأهمية النظرية لهذا الكتاب إلى أمرين: أولا، لأنه يشكل بحثا أركيولوجيا عميقا في الثنايا الفكرية لنشأة الفكر الشمولي وهو ما يعتبر خطوة لا محيد عنها لمواجهة الاستبداد والشمولية. أما الأهمية الثانية، فنجدها في كون الكتاب يشكل مادة علمية قادرة على تشريح ومن ثمة انتقاد وتعرية واقع المجتمعات المغلقة خاصة وأن بوبر عاين أشدها ضراوة وقساوة من قبيل النازية الألمانية، الفاشية الإيطالية والتصلب الوطني الياباني.

ينبني الفكر الشمولي والاستبدادي حسب بوبر على مسلمة أساسية لا بد من توفرها من أجل تحقيق سيادة الاستبداد وتأبيده. تتمثل هذه المسلمة في ضرورة سحق إي إمكانية لانبثاق الفرد المعتز بفردانيته. وهنا يتوقف بوبر بالتحليل والشرح عند ما تحمله الفردانية من غموض وبكل التمثلات التي تحيل عليها، ويعود بخاصة إلى التمثلات التي تدينها وتربطها بالأنانية. يقوم منطق المنتقدين للفردانية على مبدأ أساسي هو ربط الفردانية بالأنانية. هذا الخلط القائم على اعتبار الفردانية والأنانية شيئا واحدا، يدفع بهؤلاء إلى الدعوة إلى النضال ورفض الفردانية بذريعة لا أخلاقيتها، وبذريعة كونها نوعا من الانتهازية التي تعني الإعلاء من شأن المصالح الضيقة على حساب مصالح الجماعة.

من هذا المنطلق، فإن الرهان الأساسي لبوبر هو التضوئة على هذا الخلط، لأن الفردانية لا تعني بتاتا الأنانية، كما يقول، كما أن الغيرية والاهتمام بالغير ومصلحته لا تنمو ولا يمكنها أن تبرز في ظل الشمولية. إن الفردانية الغيرية ممكنة. بل يجب أن تكون الفردانية مع احترام مصلحة الغير هي الأساس الاخلاقي الذي يجب الدفاع عنه ضد كل أعداء الفرد وأعداء الحرية.

وبخلاف راسل الذي يرجع أزمة المجتمعات المعاصرة إلى تطور ذكائها بوثيرة لا تناسب تطورها الأخلاقي، يؤكد بوبر بأن الإنسان خير إلى درجة كبيرة، لكن مأساته أنه ليس ذكيا بالقدر الكافي. إن عنوان هذه المأساة يتمثل في السقوط في شراك ومآزق الفكر الشمولي الذي غالبا ما يستعين بخطاب أخلاقي يدين ما يسميه بوبر الأنانية عبر اتهامها بالمسؤولية عن تفشي الفقر. هذا المعنى ذو النبرة الأخلاقية يجعل الناس متعاطفين لسماع هذه النبوءات المزيفة ومن ثمة الاستعداد لقبول اتهام المجتمعات التي تعلي من حرية الأفراد بكونها مجتمعات لا أخلاقية.

وحسب بوبر دائما، فإن ذكاء الإنسان كان يجب أن يجعله بالأحرى قادرا على إدراك مدى لا أخلاقية هذه الإيديولوجيات. وأنها لا تمت إلى الأخلاقية بصلة إلا من جهة المظهر الخادع ما دامت تخفي أنانية أصحابها والمنتفعين بها، ومن ثمة لا بد من رفضها منذ الوهلة الأولى. وعلى هذا الأساس، يبني بوبر استراتيجيته الهجومية من خلال الكشف عن أباطيل الخطاب العاطف /الأخلاقي للشموليين والذي يتوجه إلى الأحاسيس وليس إلى العقل.

زاوية الهجوم الثانية التي يسلكها بوبر تتمثل في كشف الخلط المفاهيمي الذي يلجأ إليه أعداء المجتمع الحر من خلال زرع غموض ما في فهم الفردانية والشمولية من جهة ومعنى المساواة واللامساواة من جهة ثانية. وهنا يقر بوبربترابط الإشكاليتين. ولتقديم بعض الإيضاحات حول هذه الإشكاليات المفاهيمية، يرى ضرورة العودة إلى بعض المعنى الاصطلاحي. يشير معجم أكسفورد إلى أن الفردانية تستعمل للدلالة على معنيين، فهي تفيد في نفس الوقت عكس الشمولية والغيرية. وفيما لا يوجد ما يقابل كلمة الشمولية فإن مقابل الغيرية هو الأنانية.

وهنا يصر بوبر على ضرورة استعمال كلمة الفردانية بمعناها العام أي باعتبارها ما يناقض الشمولية. فيما يجب أن تستعمل  كلمة الأنانية باعتبارها نقيضا للغيرية. يعتبر هذا الفصل المفاهيم الأربعة أساسيا وضروريا لبناء المعايير القيمية بعيد عن ادعاءات أعداء المجتمع الحر الذين مهما اختلفت توجهاتهم يشتركون في الاستفادة من الخلط المفاهيمي من أجل بناء بروباغندا مضادة تتدثر بالأخلاقية والتعاطف والرغبة في خدمة مصلحة الجماعة وهي أبعد ما تكون عنها.

وعملا باستراتجيته الحجاجية المبنية على توضيح أفكاره اعتمادا على وقائع الفكر التاريخي، يقدم بوبر عددا من المتون النظرية التي لا تزال مؤثرة في صناعة الفكر الاستبدادي والشمولي. وليس مستغربا أن يعود بوبر لفهم الشمولية إلى إحدى أصولها التنظيرية المهمة والتي يحددها في البناء النظري الأفلاطوني وتابعيه.

يلخص بوبر أساس الشمولية في الفكر الافلاطوني في الفكرة التي مفادها ضرورة تبعية الفرد للجماعة وأن الاهتمام به يأتي تاليا على القبيلة، الإثنية أو أي تنظيم جماعي آخر.

لا شئ بحسب هذا المنظور يجب أن يكون الهدف منه هو الفرد الحر بل يجب أن يكون الفرد عجينة طيعة تحت يافطة خدمة "الكل". أليست هذه هي الفكرة الأساسية لكل الإيديولوجيات الشمولية والاستبدادية مهما تنوعت مشاربها ومنابعها؟

تستجيب هذه الفكرة لضرور خضوع الفرد للقبيلة، للجماعة، للدولة مع تغليف الأمر بطابع أخلاقي مبني على ضرورة الإعلاء من العمل لصالح الجماعة مع التركيز وبقوة على إدانة الحرية الفردية باعتبارها، حسب الفهم الأفلاطوني، أنانية فجة. وهكذا سينشأ لدى أفلاطون تصور خاص يفيد أن من لا يستطيع أن يضحي بمصالحه من أجل مصلحة الجماعة لا بد أن ينضوي ضمن النزعة الأنانية.

تشكل هذه الفكرة العمود الأساسي لقيام الفكر الشمولي تحت عباءة أخلاقية خادعة حيث يظهر أن أكبر أنانية تنطوي عليها هذه الفكرة هي التبشير بالخلاص من خلال قتل مصالح الفرد لصالح مصالح الجماعة. أما بالنسبة لبوبر فإن وراء هذا القناع الأخلاقي المخادع تنمو بوضوح أنانية من نوع آخر هي أنانية الجماعة، والقبيلة ولاحقا أنانية الطبقة. وهو ما يعطي المجال لنشوء أنانية جماعية.

إن الفرد المهتم بشؤونه ومصالحه، في اعتقاد بوبر، يمكن أن يكون غيريا أي يدافع عن مصالحه الخاصة وفي دفاعه عن هذه المصالح خدمة لمصالح الآخرين في إطار لعبة تبادل الخيرات بما يؤدي إلى استفادة الجميع من إبداعات الفرد المتخصص والمبادر بعيد عن هيمنة الجماعة، القبيلة والدولة التي تسحقه تحت مسميات خدمة الصالح العام الذي ليس في النهاية سوى مصالح أفراد يختبئون خلف واجهات أخلاقية براقة لكنها مخادعة.

إن الفرداني، الباحث عن تحقيق مصلحته هو غيري أيضا ومستعد لتقديم التضحية من أجل الآخرين. ومن ثمة، فإن النقيض الحقيقي للشمولية هو الفردانية فيما نقيض الأنانية هو الغيرية ولا يمكن الخلط بينهما. ولهذا وخوفا من اكتشاف لعبة الإخفاء يرفض أنصار الإيديولوجيات الاستبدادية هذا التفريق، ويعتبرون أن البديل الوحيد عن الشمولية هو الأنانية ومن هنا ينشأ خلط واضح بالنسبة للتصور الاخلاقي، خلط لا يزال قائما حتى الوقت الراهن.

في العديد من الحالات، يمكن أن يكون الخلط نتاجا للجهل، لكنه في العديد من الحالات نتاج رغبة قصدية في استمرارية الخلط من أجل تسهيل عملية محاكمة الفردانية من خلال ربطها بالأنانية. وهكذا يصبح من السهل مهاجمة الفردانية باعتبارها مرادفة للأنانية ومن ثمة سهولة مهاجمة حقوق الفرد واستهدافها.

لقد أدرك أفلاطون كما يدرك الشموليون المعاصرون بأن الفردانية هي ما يعطي للفكر الإنساني قوته وأن الخطر الذي تمثله على الفكر الشمولي أكبر من أي تهديد آخر، إذ أن الرغبة في تحرير الفرد هي التي أنتجت الثورات الكبرى التي أقبرت المجتمعات القبلية والعشائرية وأدت بالمقابل إلى قيام الأنظمة الديمقراطية والمجتمعات الحرة والمفتوحة.

إن الفردانية عكس التصور الأفلاطوني ترتبط بالتصور الحدسي القديم لمفهوم العدالة والذي ارتبطت فيه هذه الأخيرة بكونها تلك الوسيلة المثلى للتعامل مع الأفراد وليست على غرار التصور الأفلاطوني الذي يربط قيمة الفرد بمدى خضوعه وانصياعه التام للدولة.

لقد أصبح هذا المزج بين الفردانية والغيرية أساس الحضارة الإنسانية المعاصرة، والمبدأ المعيار لكل النظريات الأخلاقية التي نتج عنها الإبداع والتقدم الإنسانيين. فعلى سبيل المثال تعتبر القاعدة الأخلاقية الكانطية الداعية إلى اعتبار الشخص كذات وليس كوسيلة للحصول على غاياتنا إحدى أهم القواعد المؤسسة للمجتمعات الحرة، ولعبت هذه الفكرة دورا طلائعيا في تحرير الأفراد بعد أن صارت قاعدة أخلاقية إنسانية رغم كونها إنتاجا غربيا.

كان أفلاطون محقا حين اعتبر أن الفردانية وتطورها واعتقاد الفرد بكون مصيره رهين باختياراته الفردية، أكبر تهديد لتراتبية وتسلط الجماعة التي أراد أن تكون عنوانا لجمهوريته الفاضلة. لا تزال هذه الفكرة صادقة، لكن ليس من جهة "خطورة" الفردانية، بل من جهة قدرتها على بناء المجتمعات الحرة والمبدعة والخلاقة، لذا فإنه بدون الدفاع عن فردانية الانسان في القيم، في السياسة، وفي المجتمع، وفي الأخلاق لا يمكن سوى إنتاج كائنات طيعة سهلة الانقياد نحو الصيغ الأكثر تطرفا وشمولية واستبدادا.