كثيرة هي إذن الأمثلة التي يمكن سردها كدليل على الأثر الكبير للفكر اللاليبرالي وتصوراته للإنسان والمجتمع والدولة. لكن أكبر الأثر الذي لا بد من التذكير به هو ذلك الذي وصل إلى الوسط الجامعي خلال فترة التوسع الجماهيري للإقبال على الجامعة خلال الستينيات. وهكذا، عرفت التحليلات اللاليبرالية أوجها في أواخر القرن العشرين باعتبارها إنتاجا للأوساط الأكاديمية. ويعود الانتشار الواسع لهذا النوع من التحيليلات إلى الصعوبة التي واجهتها الجامعات في الحفاظ على المستوى العلمي للجامعات وأطروحاتها نتيجة التوسع الجماهيري للإقبال على الجامعة. أزمة الجامعة هذه، انعكست على مستوى علمية الأطروحات الجامعية التي سقطت في التبسيطية وخاصة داخل حقل العلوم الإنسانية التي شكلت المنطقة الرخوة ضمن كافة التخصصات، منطقة تسللت منها الأطروحات الحتمية والتبسيطية لقراءة الواقع والظواهر والأحداث.
تبدو هذا القراءة مشروعة إذا استحضرنا مضمون التحليلات التي سادت عبر العالم في فترة ما بعد الستينيات والتي ينظمها خيط فكري رابط سمته: التبسيطية. وهكذا ففي أمريكا الشمالية، وبدرجة أقل في أوروبا، أنتجت الحركات النسائية نظريات تعتبر أن تاريخ الإنسانية محكوم بالصراع والهيمنة بين الرجال والنساء، ولذلك، حسب هذا المنظور، لا بد من إعادة كتابة تاريخ الإنسانية كتاريخ لهيمنة الرجال على النساء. ولا عجب أن نجد من حاولت أن تثبت أن المنطق الأرسطي منطق يخضع للهيمنة الذكورية. كما برزت قراءات وتحليلات تعتبر بأن تاريخ البشرية الإثني والثقافي والجنسي هو تاريخ مكتوب "بروح ماكرة" الهدف منه إبقاء السيطرة على الضعفاء. كل هذه الإنتاجات كان مصدرها وبدون شك معاهد من المفترض أن تكون مسؤولة عن إنتاج المعرفة. وهنا لا بد من التأكيد بأن هذه التصورات لم يكن بالإمكان إنتاجها، لولا هذه النظرة اللاليبرالية للإنسان والمجتمع والدولة. فكل الإنتاجات تنطلق من تصور موحد مفاده قيام الحياة الاجتماعية على تناقض بين المهيمنين والمهيمن عليهم،وأن الاستغلال الناجح "للمهيمنين عليهم" واقعة تاريخية ثابتة وأن السلطة القائمة غالبا ما تكرس هذا الوضع.
لا بد أيضا ونحن بصدد تحليل سببية عداء المنتقدين لليبرالية من استحضار مفهوم"الأثر غير المتوقع"الذي يحدثه النظام الليبرالي.فالنتائج غير المتوقعة للنظام المبني على الحرية يمكن أن تكون أيضا ذات أهمية في تفسير سر عداء المثقفين لليبرالية حيث الخوف من أن تساهم الحرية في تطبيق مبدأ "العملة الفاسدة تطرد العملة الحقيقية". وهنا، لا بد من الاعتراف بصعوبة محاربة ومقاومة النتائج المتوقعة للحرية لذلك فإن الاعتراف بهذه الصعوبة لا يجب أن يتم على حساب قيم الليبرالية من قبيل حرية الرأي والإبداع والمبادرة الحرة. خاصة وأن ما يدعو إلى التعجب هو أن المثقفين نفسهم الذين يحاكمون الليبرالية يدافعون عن بعض نتائجها، حيث صار البعض منهم مستفيدا من قانون العرض والطلب الذي أنتج طلبا متزايدا على المشاهير. وأمام الانتشار الواسع للفضائيات وقلة المشاهير التقليديين (مغنون، موسيقيون، فنانون...) صار المثقفون جزءا من برامج القنوات والإذاعات التي ساهم تحرير السوق في انتشارها.
أمام هذا الكم الهائل من العداء المستحكم من الجدير الختم ببعض التفاؤل، إذ أن الفكر الليبرالي ماض في الخروج من وضعية الدفاع الذي أقحمته فيها الإيديولوجيات الشمولية المبنية على شبكة متصلبة لقراءة الظواهر من منظور مؤامراتي، حتمي، يكبل حرية الإنسان ويجعله خاضعا ومنفعلا لا فاعلا. يعود هذا التفاؤل إلى أن مبدأ الواقع يفند الإيديولوجيات الشمولية والتصورات الحتمية. نموذج هذا التفنيد يكرسه فشل المقاربات التي رأت في إدخال النحو البنيوي للمدارس حلا لمشكلة الفوارق الاجتماعية، فلم يساهم ذلك، في العديد من البلدان، سوى في مزيد من تفشي الأمية والجهل. ومن جهة أخرى، يثبت الواقع أن بلدانا من قبيل إسبانيا وإيرلندا وكوريا الجنوبية والصين تحقق خطوات رائدة وقفزات اقتصادية هامة، بفعل السياسات الليبرالية التي انتهجتها. وبالمقابل يشهد الواقع على تردي الوضع الأمني في البلدان التي تبنت المقاربات الوقائية للجريمة عملا بالمنظور الحتمي الذي يربط الظاهرة بالوسط الاجتماعي والاقتصادي فحسب. وبخصوص المثقفين، فغير خاف ما تتعرض له الخطاطات الهشة المستوحاة من المقاربات اللاليبرالية من أزمات، سواء في مجال مقاربة الظواهر ذات الصلة بالإنسان، أو الدولة والمجتمع. إن الماركسية،السلوكية، البنيوية، التحليل النفسي وغيرها من التيارات التي هيمنت على المشهد النظري العالمي طيلة القرن العشرين تعاني من دون شك من أزمات، لكن لا بد من الانتظار بعض الوقت، وربما لأجيال كي تتوقف شبكة القراءة المناوئة للفكر الحر عن التأثير في المشهد الثقافي. صحيح، إن المفكرين غير الليبراليين لم يتركوا خلفا لهم، إلا أنهم بالمقابل يتوفرون على متعاطفين كثر في عدد من الجامعات، وسائل الإعلام، والوسطين النقابي والسياسي.