إن التمعن في إنتاجات الأسماء العملاقة التي سعت إلى تفسير الاعتقادات الجماعية وبخاصة إنتاجات توكفيل، ماكس فيبر، وإيفاس، يجعلنا نكتشف بيسر أن تفسيراتهم تحيل في النهاية إلى النظر إلى الظواهر الإنسانية من منظور التفسير العقلاني حيث الأهمية معطاة لدور الفاعل الحر والباحث باستمرار عن تحقيق مصالحه بطريقة تلائم سياق حياته. غير أن القرن التاسع عشر سيشهد ميلاد حركية فكرية مضادة لهذا التوجه وهي حركة ستتقوى في أواخر القرن العشرين. فبخصوص التصور المتعلق بالإنسان نشأت تيارات فكرية مستقلة عن بعضها البعض، لكنها ترتد في النهاية إلى فكرة مفادها مقاربة الإنسان باعتباره كائنا سلبيا، وغير قصدي، وليس باعتباره واعيا وعقلانيا. إن أساس هذا التوجه يقوم على فكرة أساسية تنظر إلى الإنسان باعتباره خاضعا لقوى خارجية، اجتماعية، بيولوجية ونفسية، وباعتباره أيضا غير واع بالقوى التي تحركه.
ولعل فكرة الوعي الزائف الماركسية ومفهوم اللاوعي بمعناه الفرويدي يجسدان هذا التوجه، حيث كان لهما تأثير كبير على باقي التصورات. صحيح، تطورت الفكرتان بمعزل عن بعضهما البعض، غير أنهما تتقاطعان بخصوص الأسباب التي تجعلنا ننظر إلى الفرد وأفعاله ومعتقداته باعتبارها نتاج مبادئ وهمية. ولم تكن الأنتروبولوجيا بعيدة عن هذا التأثير رغم ضعفه، فالماركسية والفرويدية عززتا داخل الحقل الأنتروبولوجي تصورا ينبني على النظر إلى الإنسان بسلبية، حيث المفعول الرئيسي للقوى الخارجية التي تقوده. وسيتكرس الأمر بوتيرة متصاعدة مع سيادة النظرة الثقافوية في الأنتروبولوجيا والتي جعلت الإنسان محكوما ومجرد صناعة آلية وميكانيكية للبنيات الثقافية، التي لا يستطيع الوعي بها.
وفي ميدان علم النفس تكرر الأمر ذاته، خاصة بالنسبة لعلم النفس السلوكي الذي عرف بدوره تأثرا كبيرا بهذه الحركية الفكرية المبنية على قتل الإنسان وموته مقابل الإعلاء من دور العوامل الآلية والميكانيكية التي فسرت السلوك الإنساني من خلال ثنائيتي المثير والاستجابة.
من جهتها، ساهمت البنيوية في تكريس صورة الفرد الخاضع لإكراهات البنية، ولعل نجاح البنيوية في تكريس هذه الصورة راجع إلى النجاح الذي لاقته دراستها المستمدة من اللسانيات البنيوية، التي قاربت في دقتها العلوم"الحقة". وهو ما مكنها من الحصول على نوع من الامتياز أثر على باقي العلوم الإنسانية التي حاولت استلهام نموذجها لتطبيقه على السلوكيات والاعتقادات والظواهر الإنسانية.بطبيعة الحال، لا يمكن أن نعتبر أن هذه الحركية الفكرية عقيمة، غير أن من اللازم الوقوف على الهشاشة التي تعتري هذه التصورات الأمر الذي يجعل وصفها بالعلمية يعتريه الكثير من الشك.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الاتفاق غير المقصود بين هذه التوجهات الفكرية والمستقلة عن بعضها البعض أثر بشكل كبير على مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية وأفرزت على مستوى العالم في النصف الثاني من القرن العشرين وخاصة في العشرية الأخيرة منه صورة نمطية عن الإنسان والمجتمع والدولة تناقض التصور الليبرالي.
وباختصار شديد، فإن التصورات التي سادت حول المجتمع اختزلت العلاقة داخله من منظور صراعي، حيث التركيز على الصراع والهيمنة.وهكذا، يتم تصور المجتمع، في إهمال تام لتعقد العلاقات داخله، باعتباره مجالا للصراع بين طبقتين: المهيمنون من جهة والمهيمن عليهم من جهة ثانية. ويعود أحد أسباب نجاح هذا المنظور الاختزالي إلى تلاؤمه مع تصور عفوي وساذج للمجتمع يرتكز إلى تفسير كل الظواهر بردها إلى نظرية المؤامرة.وكما أوضح كارل بوبر فإن العلوم الإنسانية تحذوا باستمرار نحو هذا النوع من التفسيرات، لأنها سهلة من جهة، وتتقاطع مع التفسيرات العفوية والشائعة للحس المشترك من جهة ثانية.
وبخصوص الدولة، فمن المعروف أن التصورات الاشتراكية والماركسية بمختلف تلويناتها تنظر إلى الدولة الديمقراطية كجهاز لخدمة المصالح الخاصة فقط بالطبقة المهيمنة.وهكذا يضعون "الدولة البورجوازية" في تضاد وتعارض تام مع دولة مثالية، هي في نظرهم دولة التخطيط والتدخلية. وكان دو توكفيل قد أحسب ما يختزنه هذا التصور من خطر الاستبدادية والشمولية.
هذه التصورات حول الإنسان والدولة والمجتمع، تبدي بوضوح مسار الابتعاد الكلي عن التصور الليبرالي. غير أن أهم ما ساهم في سيطرتها على شبكة قراءة المثقفين للظواهر هو اختراقها لمجال العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين،لتعرف أوج تأثيراتها في العشر سنوات الأخيرة من القرن العشرين. بل، واستطاعت هذه الأفكار أن تقاوم زمن نهاية الإيديولوجيات وخاصة نهاية الماركسية، لكون الماركسية ليست سوى مصدر واحد من مصادر إلهام هذه التصورات الشمولية. فليس من الغريب إذن، أن نشاهد اليوم عددا من المثقفين الذين يذمون الماركسية لكنهم في عمق تفكيرهم، لم يبتعدوا كثيرا عن نظرتها إلى الإنسان والمجتمع والدولة. والشيء ذاته يصدق على البنيوية التي يعتبر البعض أنها تعاني من أزمة لكن تأثيرها لا يزال شديدا على باقي التخصصات في العلوم الإنسانية.
وهكذا، ونتيجة لهذا الاختراق،صار المنظور الليبرالي محصورا في الاقتصاد في حين نحت العلوم الإنسانية إلى الوقوع في توجهات يمكن وصفها بالشمولية.ولم يكن علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي والأنتروبولوجيا بعيدة عن الثأثيرات التي مست أيضا التخصصات الكلاسيكية في العلوم الإنسانية من قبيل التاريخ والفلسفة.
وبانغلاقها وانحصارها في الاقتصاد،سقط الفكر الليبرالي في نوع من التصلب من خلال التقوقع داخل منظور اقتصادوي ضيق للإنسان مفسحا المجال لإفراز شبكة "لا ليبرالية" لقراءة الأحداث والظواهر ليس في العلوم الإنسانية وفي الجامعات فقط، بل حتى في الأوساط الإعلامية،السياسية وحتى النقابية. لتصبح هذه الشبكة مصدر القراءات والتأويلات والتحليلات كلما طرأ طارئ يحتاج إلى تحليل سواء على المستوى الاجتماعي،السياسي أو الجيوسياسي.
ويمكن في هذا الصدد أن نقدم أمثلة متعددة، فبخصوص العولمة كظاهرة جيوسياسية، تتجه العديد من التحليلات إلى استعمال شبكة قراءة تنظر إلى العولمة كنتيجة لعلاقات الهيمنة والسيطرة بين الشمال والجنوب، واعتمادا على لعبة الناتج الصفري التي تعني أن نجاح أحد الأطراف يعني بالضرورة فشل الطرف الآخر.وهنا، يبدو بوضوح أن خطاطة الصراع الطبقي يتم استحضارها وتطبيقها لفهم العلاقات الدولية حيث أن تحقيق ربح للشمال يعني حسب هذه القراءة خسارة للجنوب، وهكذا دواليك.
أما المثال الثاني على تصلب شبكة القراءة الشمولية للظواهر فنستمده من الحقل التربوي المتعلق بالتفاوت في الفرص داخل "الفضاء المدرسي" وهو تصور قائم على اعتبار التفاوت في التحصيل الدراسي ناتج بالدرجة الأولى عن تفاوت الأصل/الإنتماء الاجتماعي.ويصبح الفشل الدراسي بهذا المعنى نتيجة لمؤامرة تقودها الطبقة المهيمنة وتصبح الثقافة التي تروجها المدرسة هي ثقافة المهيمنين الذين يسعون حسب هذا التصور إلى تكريس الفروقات والتفاوتات.
يحضر في المثال الثالث نفس التوجه الحتمي نتيجة الاختراقات التي سجلها هذا المنظور النمطي للإنسان. هذا المثال المستمد من حقل محاربة الجريمة، يكشف مدى تأثير هذه الأفكار اللاليبرالية، حيث أن الفكرة التي بمقتضاها يعتبر السلوك الإنساني خاضع لوسطه، وأنه منتوج اجتماعي خالص جعلت العديد من الدول تتبنى سياسات لا تركز على الزجر بل على الوقاية اعتمادا علىكم هائل من الدراسات الموجهة التي حاولت أن تبني العلاقة القائمة بين الجريمة والأوساط الاجتماعية والأسرية. وهكذا فإن النظرة الحتمية التي سعت لشرط السلوك الإجرامي وربطه بوسط التنشئة لم تؤثر فقط في السياسات العمومية، بل ساهمت أيضا في توفير البيئة الحاضنة لهذا النوع من السياسات عبر تأثيرها في المتخصصين في علم الإجرام، الصحفيين، والسياسيين. وأمام القوة الإغرائية لهذه التفسيرات المبسطة، سيتم إهمال الانتباه إلى أن المعاملات الإحصائية لتأثير عوامل الوسط تبقى ضعيفة،حيث أن العديد من الأفراد الذين تربوا في أوساط محفزة على الإجرام لم يصيروا بالضرورة مجرمين !