عداء المثقفين لليبرالية ظاهرة عالمية، يشترك فيها الشرق والغرب، الشمال والجنوب. إنها تستحق التأمل والتفكير، تفكير يبتعد عن الجاهز والنمطي ليغوص عميقا في العوامل والأسباب التي يمكن بواسطتها تفسير توجه عام يصل أوجه لدى المثقفين المحسوبين على تخصصات العلوم الإنسانية. في هذا المقال عودة إلى أحد أبرز القراءات التي قدمها السوسيولوجي الفرنسي "ريمون بودون" في كتابه المعنون: لماذا يكره المثقفون الليبرالية؟ أهمية تحليل بودون نابعة من كونها تعود إلى الأسس الثاوية عميقا وراء الظاهرة من خلال استكشاف البناء المعرفي والنظري المنتج لها.
لماذا يكره المثقفون الليبرالية؟ صعوبات كثيرة تعترض الإجابة عن هذا السؤال. أولا، لكون مفهوم المثقف ينسحب على فئات متعددة ومختلفة. فالمثقفون أصناف وأنواع، فمنهم المتمثل نفسهناطقا باسم الضمير الإنساني على شاكلة زولا، والبعض الآخر يكتفي بالانتماء إلى فئة سوسيومهنية تحترف صناعة الأفكار والمعارف، وصولا إلى المثقف الساعي باستمرار إلى الظهور الإعلامي. قد يدل المثقف أيضا، بالمعنى الأنكلوساكسوني، على ذلك الأكاديمي الذي يرتبط دوره الأساسي بإنتاج المعرفة، دون نسيان ما يصطلح عليه بالمثقف الملتزم أو الناشط سياسيا، في مقابل المثقف الحيادي بالمعنى الفيبيري.
أما الصعوبة الثانية التي تعترض الإجابة عن السؤال فهي إحالة مفهوم الليبرالية على نسيج واسع من الدلالات، وإحالتها أيضا على طيف كبير من المفكرين والكتاب: آدم سميث، بنجامين كونسطان، أليكسيس دو توكفيل، وفريديريك هايك وغيرهم. صحيح، هؤلاء المفكرون بصموا تاريخ الفكر الليبرالي ببصمتهم، لكن إيجاد خيط ناظم بينهم ليس بالسهولة المتوقعة. يعترف بهذه الصعوبة المؤرخون كما الليبراليون حيث لم ينجحوا في الاتفاق على الأسماء الممكن إيرادها في لائحة المفكرين الليبراليين. وهكذا مثلا تضع الموسوعة العالمية كل من ماكس فيبر ودوركاييم في لائحة المفكرين الليبراليين.
هذه الصعوبات المسجلة في تعريف المثقف والليبرالية لم تمنع من تسجيل محاولات عديدة للإجابة عن سؤال لماذا يكره المثقفون الليبرالية؟ ولعل إحدى الإجابات الشهيرة هي تلك التي قدمها "روبير نوزيك" والتي يرد فيها الأمر إلى نوع من الإحباط الذي يصيب المثقفين داخل المجتمعات التي تتبنى النهج الليبرالي نتيجة ضعف الامتيازات التي تحظى بها هذه الفئة، وهو الإحباط الناتج عن عدم المماثلة بين الجهد المبذول في سنوات الدراسة وحجم الامتياز المحصل عليه. وبالتالي تنبني صورة ذهنية لدى المثقف تربط هذا النظام بعدم الإنصاف وعدم العدالة.
تتوفر هذه النظرية على جزء من الحقيقة، لكنها تغفل أن كراهية المثقفين لليبرالية تتأثر بمتغيرات الزمن والمكان ونوعية المثقفين. وهكذا ففي الغرب، يمكن أن نسجل عموما أن المثقفين المحسوبين على العلوم القانونية أقل عدوانية اتجاه الليبرالية من المحسوبين على العلوم الإنسانية.
لا بد أيضا من البحث عن سر هذا العداء من خلال فرضية بديلة تأخذ بعين الاعتبار الجانب المعرفي والنظري. بالطبع لا يمكن اختزال هذه العدائية في تفسير أحادي الأبعاد حيث من الضروري أيضا الالتفات إلى عوامل أخرى من قبيل "الجهل بالليبرالية" وغيرها من العوامل الأخرى.
إن أحد الأسباب المكرسة لهذا العداء هو سوء الفهم الكبير الذي يتعرض له مفهوم الليبرالية وبخاصة من قبل المثقفين أنفسهم، فالبعض يعتبرها نظرية الحد الأدنى للدولة حيث وظيفة الدولة تنحصر في تحقيق الأمن والاستقرار، فيما يحصرها آخرون في الوظيفة الاقتصادية.
وهكذا لا ينظر العديد من المثقفين إلى الليبرالية إلا من خلال منظار تجزيئي، ولا يأخذ بعين الاعتبار كونها منظومة معقدة ومتشابكة حيث يتداخل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، منظومة يشكل إطارها الفلسفي الخيط الرابط بين جميع مستوياتها، وكل تجاهل لهذا العنصر أو ذلك لن يؤدي في النهاية سوى إلى أحكام قيمية مبتسرة بل ومزيفة، لأن التصور الفلسفي هو النواة المشتركة التي تبني اللحمة الفكرية الحقيقية للفكرة الليبرالية، وتتضمن هذه النواة ثلاث مجموعات من المبادئ تتعلق بالإنسان، المجتمع والدولة.
فبخصوص تصورها للإنسان، تنظر إليه باعتباره فردا عقلانيا بالمعنى الواسع للكلمة، أي ذلك الفرد الذي تحركه دوافع ورغبات ومصالح، يسعى باستمرار وبقوة إلى تحقيقها عبر استثمار واستغلال الوسائل المناسبة. يتوفر الفرد، من هذا المنظور، على الوعي الكافي بدوافعه ومصالحه وغاياته. إنه في نهاية المطاف مبادر، وسيد مصيره ويتوفر على هامش كبير من الحرية ليصنع بنفسه ما يريد في إطار السياقات والاختيارات المتاحة له والتي يهدف دائما إلى رفع مستوى تلاؤمه واستفادته منها. وهكذا تشكل الحرية المصدر الأساسي لهذا التصور.
أما بخصوص تصورها للمجتمع، فالمفكرون الليبراليون ينظرون إليه باعتباره نسيجا معقدا من العلاقات والتفاعلات الاجتماعية، مع الاعتراف بأن الحياة الاجتماعية محكومة بثنائيتي التعاون والصراع، وأن الأوضاع محكومة بمقومات التعاون والصراع في نفس الوقت. وعلى غرار عموم الناس، يقبل الليبراليون بوجود التفاوتات الاجتماعية عندما تكون تعبيرا عن التفاوت في الكفاءات والمسؤوليات والاستحقاقات أوعندما تكون تعبيرا عن ميكانيزمات التبادل الحر.
وفي منظورهم للدولة يشترك أنصار التصور الليبرالي في تصور ينسجم بدرجة ما مع وصف آدم سميث للوظائف الثلاث للدولة والمتمثلة في : تحقيق الأمن العام والاستقرار، ووضع المؤسسات الضرورية للإدارة والعدالة، وأخذ جميع المبادرات بعين الاعتبار من جهة خدمتها للصالح العام خاصة تلك التي لا تستطيع المبادرة الخاصة تحقيقها. هذه الوظيفة الثالثة تبقى مفتوحة كما يقترح آدم سميت.
تبلورت هذه الثلاثية التي تشكل التصور الفلسفي لليبرالية خلال القرن الثامن عشر ولا يزال حضورها مستمرا لدى أنصار التقليد الليبرالي وإن بدرجات متفاوتة. ويمكن رصدها في الوقت الراهن بشكل أو بآخر لدى عدد مهم من الاقتصاديين، علماء الاجتماع، والأنتروبولوجيين.