logo

logo

شارلي إيبدو والحرية التي تنتصر دائما

image

كان يوم الأربعاء، السابع من يناير، يوما رائعا؛فهو من الأيام التي تأتيك بأخبار على درجة كبيرة من الأهمية والإثارة إلى الحد الذي يذكّرك بكم يمكن للحياة أن تكون رائعة؛ وأمثال هذه الأيام يندر تكرارها ويجب أن نقدرها كلما حالفنا الحظ بمجيئها. وإنني على ثقة بأن هذا اليوم سنتذكره لاحقا على أنه اليوم الذي آذن ببداية مستقبل أفضل للملايين من الناس، وإن كان يجب مرور مدة من الزمن قبل إدراكهم لذلك.

لا شك في أن من يقرأ هذه المقدمة، حتى وإن كان استيقظ من نومه للتو، سيكون واثقا من أنني مخطئ في التاريخ أو أنني فقدت عقلي تماما؛ ففي نهاية المطاف: لقد شهد هذا اليوم مجزرة مروعة راح ضحيتها اثنا عشر من العاملين في الجريدة الفرنسية الساخرة (شارلي إيبدو)؛ وذلك في جريمة وحشية صادمة ارتكبها إرهابيون إسلاميون بحجة "الثأر" لنبيهم الذي طالته الرسوم الكاريكاتيرية عدة مرات على صفحات هذه الجريدة. وعلى هذا الأساس، فهذه الجريمة تعتبر هجوما مباشرا ودمويا على حرية التعبير. وليتأكد القارئ بأنني لم أكن أعني هذه الحادثة عندما قلت بأن السابع من يناير كان يوما رائعا.

إن الخبر الذي أثارني كان يتحدث عن أمر مختلف جدا، ولم يكد يلاحظه أحد بسبب إعلانه يوم حدوث المجزرة؛ ولكنه كان يتماثل معها في الأهمية والجدارة بالملاحظة: إذ أعلن العلماء في جامعة نورث إيسترن عن اكتشافهم لمضاد حيوي جديد يدعى (تيكسوباكتين)؛ وعلى الرغم من أن هذا الخبر يبدو مكررا، إلا أنه ليس كذلك أبدا.

منذ اكتشاف البنسلين قبل قرن تقريبا والطب الحديث يخوض (سباق تسلح) ضد الجراثيم؛ فالجراثيم تطور مقاومة تقضي على فعالية الأدوية، والعلماء يكتشفون أدوية جديدة لقتلها، وقد استطاع الباحثون منذ أكثر من نصف قرن أن يبقوا متقدمين على الجراثيم بخطوة، لكن تقدمهم هذا توقف منذ الثمانينيات الماضية، ولم يظهر أي اكتشاف جديد في هذا المجال منذ ذلك الحين. وبما أن السلالات الجرثومية المقاومة للأدوية أصبحت شائعة على نحو متزايد، ووقف العلم أمامها عاجزا عن تطوير أسلحة جديدة لمكافحتها، هبّ الأطباء للتحذير من أننا قد نرجع إلى تلك الأيام التي كانت فيها أي عدوى قابلة للتحول إلى مرض قاتل، حتى أن الابن الأكبر للرئيس الأمريكي كالفين كوليج فارق الحياة بسبب مضاعفات جرح أصيب به أثناء مباراة في كرة المضرب. وها قد جاءنا التيكسوباكتين بعد انتظار طويل كومضةأمل تؤكد بأن هذا المستقبل المظلم يمكن تجنبه.

وهذا الإعلان واعد على صعيدين اثنين: فالعلماء لم يكتشفوا مضادا حيويا جديدا وحسب، وإنما يضاف إلى هذا الاكتشاف أنهم قاموا به من خلال طريقة جديدة كليا تساعد على القيام باكتشافات أخرى؛ فعلى الرغم من أن العلماء يعرفون منذ أمد بعيد بأن جراثيم التربة تفرز مضادات حيوية، فإنهم كانوا يعجزون عن زراعتها في المختبرات، لكن الفريق البحثي في جامعة نورث إيسترن ساعد على تطوير جهاز جديد يدعى (شريحة العزل)، و يعرف اختصارا باسم (آيتشيبiChip)، يسمح لهم بعزل المضادات الحيوية في التربة، وبالتالي: السيطرة عليها؛ وهكذا فإن العلم لم يكتفِ بابتكار سلاح جديد في هذه المعركة، وإنما منحنا أيضا أداة جديدة لاكتشافات قادمة.

وهنا يبرز السؤال التالي: ما هو السياق الذي يجمع هاتين القصتين المنفصلتين؟ يمكنني القول، وبكل بساطة، بأنه ليس هنالك مثال أفضل من التيكسوباكتين يوضح سبب تفاؤلي في القتال الدائر ضد تلك الهمجية التي ضربت باريس؛ فالمجرمون الذين ارتكبوا هذه المجزرة كانوا مدججين بالبنادق الرشاشة والمسدسات، حتى أن أحدهم كان مجهزا بقاذفة صواريخ، ودلت حركتهم وهجومهم الاحترافي على أنهم بارعون جدا في فنون القتل. لكن مرتكبي هذا العمل البشع وأشباههم حول العالم لا يمكنهم العمل من أجل أهدافهم إلا بالسلاح، وليس في جعبتهم إلا الرصاص، وهي نقطة قوة لا يستهان بها دون شك، لكنهم مجردون تماما من عناصر لا غنى عنها لأي حركة تريد تحقيق الانتصار، وهي: الرؤية والأفكار والأمل؛ فكل ما يمكن لهؤلاء المتوحشين أن يقدموه لمن يتبعهم ولمواطنيهم هو مجتمع يرتبط فيه الناس بعضهم ببعض من خلال القوة والعنف، ويسوده الفقر والجهل والبؤس.

أما التيكسوباكتين فيمثل ما هو خلاف ذلك، وبكل طريقة يمكن تخيلها؛ فهو ثمرة لعالم يقوم على الحرية والفردية والقدرة على البحث عن المعرفة والحقيقة؛ عالم يتمتع الناس فيه بحرية التعبير عما يدور في أذهانهم، والتفكير بأنفسهم، والسعي إلى سعادتهم، وتكوين العلاقات القائمة على الاحترام المتبادل والتعاون الطوعي؛ عالم يزخر بكل ما هو صالح ونبيل ومرغوب، ويملؤه الازدهار والمتعة والسعادة والرضى؛ عالم بلا حدود، سواء كانت ثقافية أم علمية أم غيرها، تقف في وجه صراعنا الذي لا يتوقف من أجل عيش حياة أفضل وأطول وأكثر صحة؛ عالم يرغب به أصحاب العقول السليمة، في كل مكان وزمان، لهم ولأبنائهم.

وكما هو حال الهمج من أعداء الحضارة السابقين، كالشيوعيين والنازيين وغيرهم، فإن هؤلاء المخربين الذين يدمرون كل ما يرونه أمامهم باسم الإسلام ربما يتفوقون على غيرهم بشكل مؤقت بفضل لجوئهم إلى العنف، إلا أنه لا يمكن لأي جماعة من الناس أن تحكم الآخرين باستخدام القوة لوحدها إلى الأبد، فسيأتي وقت يدرك فيه أولئك الرازحون تحت هيمنة هؤلاء السفاحين بأنهم تعرضوا للخداع، وسينهضون لتحديهم ورفض سيطرتهم.

إن معركة الأفكار ستكون طويلة وصعبة ودموية، لكن نتيجتها معروفة سلفا؛ فالمستقبل ليس من نصيب من ينشرون حضارة تقوم على الحقد والمعاناة والألم، وإنما هو من نصيب الذين يدعون إلى حضارة تقوم على الانفتاح والتسامح والحرية، فحضارتهم هي التي تقدم لنا فرصة لعيش حياة طيبة. والتيكسوباكتين اختصار ممتاز لهذه الحضارة، وليس هنالك ترسانة أسلحة على وجه الأرض تحتوي ما يكفي من البنادق الرشاشة أوالقنابل اليدوية أو الصواريخ للانتصار على التيكسوباكتين وما يمثله التيكسوباكتين.

ولكن حتى يحين موعد الانتصار النهائي، وحتى ما بعد ذلك، يجدر بنا توجيه التحية لشجاعة أولئك الأباة الذين سقطوا شهداء من أجل حرية التعبير؛ كما يجدر بنا تكريم ذكراهم بإلغاء كل ما لاتزال مجتمعاتنا تحتويه من العراقيل الكبيرة التي تقف في وجه حرية التعبير، وهي عراقيل مليئة بالنفاق، ولا تعرقل إلا مناخ التبادل الحر والمنفتح للأفكار، والذي يتيح المجال لاجتراح المعجزات، كما حدث في اكتشاف التيكسوباكتين.

وعلى هذا الأساس، لا بد من أن ترتفع أصواتنا بالقول في نهاية المطاف: (أنا شارليJE SUIS CHARLIE).

 

آدم آلوبا

خبير قانوني كندي حاصل على الماجستير في العلوم السياسية

ترجمة: علي الحارس