logo

logo

أعجوبة التعاون.. كيف ينبثق التعاون دون الحاجة إلى جهة تخطيط واعية

image

من الميزات العظيمة لعلم الاقتصاد أنه يسلط الأضواء الكاشفة على المواضع المخفية وغير المرئية، حيث قام الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا في مقالته الشهيرة (ما يرى وما لا يرى) بتحليل العواقب الاقتصادية لعمل تخريبي بسيط (النافذة المكسورة)، فنحن يمكننا أن نرى النافذة المكسورة بأعيننا، ويمكننا أن نرى أو نتخيل عواقب النافذة المكسورة، والتي تتمثل في حصول بائع النوافذ الزجاجية على المزيد من المال، لكن هنالك صعوبة أكبر تكتنف رؤية أو تخيل ما لا يرى، أي: النشاط الاقتصادي الذي لن يحصل بسبب الاضطرار إلى تركيب نافذة جديدة.

إن هذا المثال البسيط يلعب دورا رئيسيا في تذكيرنا بالندرة التي تحصر خياراتنا ضمن نقطة زمنية معينة، وقد استخدم باستيا كناية (النافذة المكسورة) لانتقاد التوصيات السياسية التي تقطع وعودا بالنجاح غالبا ما تتجاهل الندرة الحتمية التي لا بد أن تفرض مقتضياتها في إحدى النقاط الزمنية، وذلك حينما تصبح إحدى الموارد المستخدمة لغاية ما غير متاحة للاستخدام في خدمة غاية أخرى.

وكان لدى باستيا رأي آخر حول (ما يرى وما لا يرى) لكنه لم يكن يتمتع بالتقدير الذي حظي به المثال الكلاسيكي (النافذة المكسورة)، ففي الفصل الثامن عشر من كتابه (سفسطات اقتصادية) تساءل باستيا عن السبب الذي يجعل جميع سكان باريس ينامون دون الخشية من أن يستيقظوا من نومهم صباح اليوم التالي وقد نفذ الخبز والسلع الأخرى من الأسواق، فقال:

عندما كنت في طريقي لزيارة باريس قلت لنفسي: هنا يسكن مليون من البشر وهم معرضون لخطر الموت خلال أيام معدودة إذا توقفت الإمدادات بأنواعها عن التدفق إلى هذه المدينة الكبرى العظيمة؛ فالخيال يعجز عن تصور التنوع الشاسع للأشياء التي يجب أن تمر من أبوابها غدا إذا كان سكان المدينة يرغبون بحماية أنفسهم من أهوال المجاعة والاضطرابات وأعمال النهب والسلب. لكن الجميع ينامون بسلام في هذا الوقت، دون أن تؤرقهم للحظة واحدة فكرة عن مشهد مخيف كذلك... إذن، ما هي القوة السرية الغنية بالموارد التي تحكم النسق المنتظم المدهش الذي يحكم هذه الحركات المعقدة، هذا النسق المنتظم الذي يؤمن به كل شخص إيمانا ضمنيا على الرغم من أن ازدهاره وحياته نفسها تعتمد عليه. هذه القوة هي مبدأ مطلق، وهو مبدأ التبادل الحر.

وفي الحقيقة، هنالك جانبان للعنصر الذي لا يرى في هذه الحالة، والجانب الأول هو مجرد الإعجاب بأن مشكلة التنسيق والتعاون الهائلة يجري حلها يوميا دون الحاجة إلى وجود من يكون مسؤولا عن ذلك، لكن هل يتوقف أي شخص، سواء كان بائعا للكعك أم للصحف أم للطعام في كل أنحاء المدينة الكبرى، للحظة واحدة ويقدر هذا الإنجاز الاستثنائي للبشرية؟ إن غياب التقدير ينشأ من نوعية هذا التعاون، فهذه المنظومة تعمل على نحو جيد جدا إلى الدرجة التي تستعصي فيها على ملاحظة الناس لعملها على الإطلاق؛ فنحن لا نتوقف أبدا للتعبير عن إعجابنا بهذه المنظومة لأن من النادر جدا أن نلاحظ فشلها في عملها، فمتى كانت آخر مرة زرت فيها المقهى القريب من منزلك ووجدنه خاليا من الكعك أو الشاي أو القهوة؟ فهي تتوافر هنالك دائما وهي ساخنة وبسعر مدهش في متناول الجميع.

أما الجانب الثاني الذي لا يرى فيتمثل في أن المرء إذا تمكن من الملاحظة بأن هذه المنظومة غير الخاضعة للإدارة تعمل بشكل جميل فسيقاسي الأمرّين في تفسير كيفية تحقق هذه الظاهرة، فكيف يمكن للملايين من الناس أن يتعاونوا يوميا مع ملايين أخرى لإيصال الكعك إلى المقهى القريب؟ إذ ليس هنالك مكتب حكومي أو وكالة حكومية أو جهة توريد مركزية تنشأ منها أوجه التبادل التجاري، وليس هنالك مشهد مرئي لشبكة العلاقات التي تربط أوصال المنظومة بعضها ببعض.

في هذه المقالة سأسعى إلى تسليط الضوء على بعض المحاولات التي بذلها الاقتصاديون في الماضي لإبراز ما ينشأ من نظام غير منسق لا يلاحظ في معظم الأحيان، فيؤدي إلى خلق ثروة على نحو نعتبره من مسلّمات الحياة اليومية غالبا.

آدم سميث

لم يكن باستيا أول من أشار إلى أعجوبة التنسيق، فالتعاون الذي يبطن هذه العملية هو في نهاية المطاف يتوجه بفعل التخصص وتقسيم العمل، لذلك فليس من المفاجئ أن نجد آدم سميث، وهو الذي بدأ كتابه (ثروة الأمم) بنقاش حول تقسيم العمل وخصائصه المنتجة للثروة، يطلب من القارئ أن يتعجب من قوة التخصص وتقسيم العمل والتعاون اللامرئي للآلاف من الناس في إنتاج معطف صوفي بسيط، فيقول:

إذا ما لاحظت المستوى المعيشي لمعظم العمال المحترفين أو العاديين في بلد متحضر ومزدهر فستجد أن هنالك عددا لا يحصى من العمال الذين يشاركون ولو بشكل جزئي في تأمين هذا المستوى المعيشي؛ ولنأخذ المعطف الصوفي الذي يرتديه العامل العادي كمثال: فمهما كان هذا المعطف خشنا وعاديا، فإنه يمثل حصيلة العمل المشترك لعدد هائل من العمال: الراعي، ومنتقي الصوف، ومن ينظفه ويمشطه، والصباغ، والمشذب، والغزّال، والقصّار، والخياط وغيرهم الكثير ممن تتضافر اختصاصاتهم في إنتاج حتى هذه السلعة المتواضعة. وإلى جانب هؤلاء، كم هنالك من التجار والناقلين الذين ينقلون مواد الإنتاج من عامل إلى آخر مهما تباعدت بينهم المسافات! [1]

هنري جورج

ربما لا يكون هذا الاقتصادي معروفا للجميع، لكن القارئ المعاصر قد يعرفه بسبب تأييده لفرض الضرائب على الأراضي دون باقي المدخلات الأخرى؛ ولقد كان جورج بارعا في إيصال فكرة التعاون اللامرئي الذي أسلفنا الحديث عنه، ففي كتابه (الحماية أو التجارة الحرة) أورد مثالا عن أسرة ريفية تعد وجبة تتكون من الخبز والسمك والشاي وتتدفأ بموقد تشتعل فيه نار جميلة المنظر، فقال:

يقوم الحطاب بقطع الخشب، لكن (إنتاج) الحطب يتطلب ما هو أكثر من ذلك، فلو كان الأمر يتوقف عند القطع لكان الخشب لا يزال ملقى على الأرض التي قطع فيها، ولذلك فإن العمل المبذول لنقله يلعب دورا في إنتاج الحطب يتماثل مع دور القطع في ذلك، وهكذا فإن الرحلة من المطحنة وإليها تلعب دورا ضروريا في إنتاج الطحين يتماثل مع دور زراعة القمح وحصاده في ذلك. كما إن إنتاج السمك يتطلب السير إلى البحيرة والعودة منها، وإنتاج الماء المغلي يتطلب إحضاره من النبع، وغمر البرميل في المياه لتجميعها، ناهيك عن صناعة الدلو الذي يحمل منه.

أما في ما يتعلق بالشاي، فهو يزرع في الصين، ويحمل على عصي البامبو فوق أكتاف الرجال إلى قرية مجاورة لأحد الأنهار، حيث يباع إلى تاجر صيني، ثم يقوم هذا التاجر بشحنه على ظهر إحدى المراكب إلى إحدى الموانئ المذكورة في اتفاقيات التجارة، وهناك يجري توضيبها من أجل الشحن عبر المحيطات، وحيث تباع لإحدى الوكالات التابعة لعائلة أمريكية، ثم ترسل إلى أصحابها على ظهر سفينة بخارية إلى مدينة سان فرانسيسكو، ثم تنقل بعدها عبر السكك الحديدية إلى مالك جديد لتصل إلى بائع جملة في مدينة شيكاغو، وهذا البائع يبيعها بدوره إلى صاحب متجر في إحدى القرى، وهنالك تباع للمزارعين متى شاؤوا وبالكمية التي يرغبون، وذلك على نحو مشابه لمياه النبع التي تبقى في البراميل حتى يأتي أوان الحاجة إليها.

وقد لجأ جورج إلى التفصيل في تناول التعقيد الذي يكتنف إنتاج حتى أبسط الأشياء، وذلك سعيا منه إلى الدفاع عن التجارة الحرة؛ فإنتاج أي شيء وتبادله مقابل أمر مُنتَج في الخارج لا يختلف عن إنتاجه بشكل مباشر. ومن خلال إظهار تعقيد الإنتاج الحديث حاول جورج أن يواجه الاتهام الذي يقول بأن أمثال هذه المنتجات تكثر فيها عناصر الهدر والتطفل التي يتطلبها النقل والتوزيع.[2]

إن النقطة التي أشار إليها جورج لا تتعلق بالجانب العجيب من كل جوانب هذا التعاون اللامرئي بقدر ما تشير في الأساس إلى أهمية كل خطوة في الطريق الذي يتيح لنا التمتع بالسلع كما يحدث حاليا. إننا ربما لا نولي جهات التوزيع والتجارة والنقل الأهمية نفسها التي نوليها للخباز الذي يصنع الكعك (مثلا) لكن هذا الخباز ما كان له أن يصنع الكعك دون أن يكون هنالك من ينقل له الطحين، ومن يصنع له الفرن، وما إلى ذلك.

ليونارد ريد

وربما يتمثل أفضل الأمثلة المألوفة للقارئ المعاصر في أعجوبة التعاون اللامرئي الذي أشار إليه ليونارد ريد في مقالته الرائعة (أنا، قلم الرصاص)، حيث يدّعي ريد، وهو يتكلم بلسان حال قلم الرصاص، بأنه ليس هنالك من يعرف بمفرده كيفية صناعة قلم الرصاص، فيقول:

هل هنالك من يرغب بتحدي الطرح الذي أوردته سابقا حول أنه ليس هنالك من شخص على وجه الأرض يعلم كيفية صنعي؟

في الحقيقة، لقد اشترك الملايين من البشر في نشأتي، لكن كل واحد من هؤلاء من الملايين لم يكن يعلم إلا القليل من زملائه في هذا العمل. وقد يخطر ببالك أنني أبالغ عندما أربط نشأتي بأحد العاملين في قطف حبات القهوة في مكان قصي كالبرازيل وبالفلاحين الذين يعملون في زراعة أنواع الغذاء في كل مكان، وقد تعتبر ذلك نوعا من أنواع الشطط، لكنني لن أتخلى عن مزاعمي؛ فكل شخص من هذه الملايين، ومنهم مدير شركة أقلام الرصاص، لا يسهم إلا بقدر ضئيل من مهاراته، وإذا أردنا النظر إلى هذه المسألة من منظور المهارة فإن الفارق الوحيد ما بين عامل المنجم الذي يستخرج الغرافيت في سيلان وبين الحطاب الذي يقطع الأشجار في أوريغون يتمثل في (نوع) المهارة المستخدمة، كما إن كلا من عامل المنجم والحطاب لا يمكن الاستغناء عنهما، وشأنهما في ذلك لا يقل عن شأن الكيميائي في المعمل، أو العامل في استخراج النفط (شمع البارافين من مشتقات النفط).

ويؤكد ريد على الجانب غير المنسق لهذا التعاون المدهش فيقول:

ويضاف إلى ما سبق حقيقة مذهلة أخرى، وهي: غياب أي عقل مدبر، وأي شخص يرشد أو يوجه بالإكراه هذه الأفعال العديدة التي أخرجتني إلى حيز الوجود؛ فلا يمكنك أن تجد أثرا لمثل هذا الشخص، ولكنك ستجد عوضا عن ذلك ما يدل على عمل (اليد الخفية).

حقا، إن من المدهش أن أرى الكعك ينتظرني في المقهى. وحقا، إن من المدهش توفر أقلام الرصاص في عشرات الأماكن التي أقصدها لشراء أشياء أخرى. وهناك أيضا الكثير من المعاطف الصوفية، والوفير من الشاي، بل إن من المدهش أكثر توفر المزيد من السيارات والكومبيوترات والتلفزيونات، وهي منتجات أكثر تعقيدا على نحو تستعصي معه مقارنتها بالكعك وأقلام الرصاص. لكن، ما الذي يقدم متطلبات التعاون الذي يتيح تجميع مكونات هذه الأشياء على يد الملايين من الأشخاص الذين لا يعرف بعضهم بعضا، والذين يعملون دون أن يعلموا بحدوث هذا التعاون في الأصل؟

فريدريك هايك

ومن أعمق المحاولات التي سعت إلى تسليط الضوء على هذه العملية: ما عرضه هايك في مقالته التي ظهرت في العام 1945 على صفحات مجلة (أمريكان إيكونوميك ريفيو) تحت عنوان (استخدام المعرفة في المجتمع)، حيث لم يكتف هايك بالتعجب من توفر أقلام الرصاص والخبز والمعاطف والتلفزيونات، وإنما كان يرغب أيضا بلفت انتباه القارئ إلى أمر أكثر إثارة للدهشة وأكثر خفية عن العين المجردة، وهو الكيفية التي يستجيب بها هذا الحشد غير المنسق من الأشخاص المتعاونين الذين يعملون في إنتاج هذه السلع تجاه أزمات الشح أو غيرها من أوجه التغير الخارجية. (لجأ هايك إلى استخدام أعجوبة المعرفة غير المنسقة كرد على معاصريه من الاشتراكيين الذين كانوا يطرحون الحجج المؤيدة لسيادة التنسيق المركزي الهرمي الذي تديره الدولة. وقد قارن باستيا، في نقاشه الذي أوردناه في ما سبق، بين نجاح التبادل اللامركزي في تزويد باريس بكل ما يحتاجه مواطنوها، وبين الأداء الضعيف لأي جهة حكومية في القيام بهذه المهمة).

لقد أراد هايك أن يسلط الضوء على التنسيق المذهل للمعرفة ذات اللامركزية الكبيرة التي يجب أن تحصل إذا ما أردنا التغلب على مصاعب أي معالجة لوضع ما كأزمات الشح؛ حيث يرى هايك بأن الاستجابة لهذا الوضع تتمثل في منظومة الأسعار، وهو في ذلك يقترب مما طرحه باستيا تحت عنوان (المنفعة الذاتية والتبادل) ولجوء ريد إلى مفهوم (اليد الخفية)، وقد عرض رأيه هذا بشيء من التفصيل.

ولا بد من أن نذكر هنا بأن هايك كان يشير إلى ما يعرف في الحين الراهن بمفهوم (العرض والطلب)؛ لكن مما يؤسف له أن أساتذة الاقتصاد يلقنون طلابهم اليوم في الكثير جدا من الحالات بأن مفهوم (العرض والطلب) يتطلب تنافسا مثاليا أو معرفة مثالية، مما يدفع الطالب إلى تكوين فكرة عن هذا المفهوم باعتباره بنية نظرية لا يرجح انطباقها على مجريات الواقع اليومي، وإنما تنطبق على حالات ظرفية ملغزة (كالقمح).

لكن هايك كان يحمل نظرة شديدة التغاير عن هذه العملية، إذ كان يصفها بأنها غير مثالية لكنها فعالة في الوقت نفسه، فقال:

لا شك في أن إجراءات الضبط ربما لا يمكنها أبدا أن تتصف بالمثالية بالمعنى الذي يفهمه الخبير الاقتصادي في تحليله القائم على مبدأ التوازن، لكنني أخشى من أن تنظيرنا الذي اعتاد على مقاربة المشكلة مفترضا على نحو ما مثالية المعرفة التي يكاد يمتلكها جميع الأطراف ذات العلاقة قد جعل أبصارنا معمية تقريبا عن رؤية العمل الحقيقي لآلية السعر وقادنا إلى تطبيق معايير أكثر تضليلا في الحكم على كفاءة هذه الآلية. إن الأعجوبة تكمن في أن حالة كتلك من حالات ندرة إحدى المواد الخام، ودون إصدار أي أمر ودون أن يعلم بالأمر أكثر من ثلة لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، ستدفع عشرات الآلاف من الأشخاص، والذين لا يمكن التعرف على هوياتهم حتى بعد مدة طويلة من البحث والتقصي، إلى الاقتصاد في استخدام هذه المادة أو منتجاتها، أي: إنهم سيمضون في الاتجاه الصائب. ويكفي ذلك ليجعل مما يحصل أعجوبة من الأعاجيب، وذلك حتى وإن لم يستطع الجميع، في هذا العالم الذي لا يكف عن التبدل، أن يضبط أموره على نحو مثالي يجعل أرباحه دائما ضمن المستوى الثابت أو "الطبيعي" نفسه.

لقد تعمدت استخدام كلمة "أعجوبة" كي أصدم القارئ بمدى القناعة الذاتية التي نحس بها غالبا عندما نأخذ عمل هذه الآلية على سبيل المسلّمات. وأنا مقتنع بأن هذه الآلية لو كانت ناتجة عن التصميم البشري القصدي، وإذا كان الأشخاص الذين ينقادون بتأثير تغيرات السعر يدركون بأن قراراتهم تتمتع بأهمية تتجاوز كثيرا غاياتهم الحينية، فإن هذه الآلية كانت لينظر إليها باعتبارها إحدى الانتصارات العظمى التي أحرزها الذهن البشري. لكن هذه الآلية تعاني من سوء الحظ الذي يعود إلى عاملين: أنها ليست نتيجة للتصميم البشري، وأن الأشخاص الذين ينقادون بتأثيرها لا يعلمون في العادة ما هو السبب الذي يجعلهم يفعلون ما يفعلون.

ومن الاقتباسات المفضلة لدى هايك ما أورده آدم فيرغسون حول (نتيجة الفعل البشري لا التصميم البشري):

إن البشرية في اتباعها للحس السليم الذي تقتضيه أذهانها، أو في سعيها إلى إزالة أوجه الضيق في معاشها، أو في بحثها عن كسب منافع واضحة متواصلة، وصلت إلى نتيجة لم يكن لها أن تتوقعها حتى في الخيال، ومررتها، كما هو حال الحيوانات الأخرى، في مسار طبيعتها دون فهم غايتها...

إن كل خطوة وكل حركة بهذا الحجم، وحتى ما كان منها في العصور التي تعرف اصطلاحا بعصور التنوير، إنما جرت مع عمى مساوٍ عن المستقبل؛ وإن الأمم تجد مؤسساتها بطريق الصدفة، وهي مؤسسات ليست إلا نتيجة للفعل البشري، ولم تأتِ نتيجة لتفعيل أي تصميم بشري.[3]

ومن حسنات تفسير هايك، وإن كان يبدو رتيبا من ناحية الأسلوب الإنشائي بالمقارنة مع الأمثلة الأخرى التي أوردتها سابقا، أنه يشدد على الكيفية التي يقوم من خلالها التعاون اللامرئي بحل المشكلة المركزية للنظام الاقتصادي الحديث؛ إذ كيف يمكنك اتخاذ قرار بشأن عدد الكعكات أو أقلام الرصاص أو السيارات التي يحتاجها أي مجتمع؟ وكيف يمكن للإجابات المطروحة عن هذا السؤال أن تختلف باختلاف الظروف والمعارف؟ وسأقوم هنا باستخدام هذين السؤالين للانتقال إلى مثال حول التعاون اللامرئي يجري حاليا في عالم اليوم.

من المتوقع خلال الأعوام الخمسة أو العشرة التالية أن يقوم مئات الملايين من الصينيين بمغادرة الريف والانتقال إلى المدينة، وهذه الهجرة غير الطبيعية ستتطلب الملايين من التعديلات التي يجب أن تحدث كي لا تصاب حياتنا، نحن الأمريكيين، بالشلل التام؛ فكل هؤلاء القادمين الجدد إلى المدينة سيستخدمون المزيد من أقلام الرصاص ويشربون المزيد من القهوة ويشترون المزيد من الدراجات والسيارات وما شابه، فهل سيتبقى بعد ذلك ما يكفي للتصدير خارج الصين؟ لا شك في أن هذه الهجرة المتوقعة ستؤدي إلى اضطراب كبير، فهل يجب علينا أن نقلق بشأنها؟ وما هي الإجراءات الاحتياطية التي يجب اتخاذها كي تحدث هذه النقلة بسلاسة؟

على الرغم مما أوردناه فلا بأس في أن لا يتعكر صفو نومنا، كما هو حال الباريسيين في مثال باستيا، بسبب القلق بشأن هذه التغيرات، فالنقلة الحاصلة لن تجري إدارتها على يد لجنة من الكونغرس أو هيئة رئاسية تتولى مسؤولية تفادي الكارثة، وإنما سيجري التعامل معها بواسطة منظومة السعر ولن نكاد نستطيع ملاحظة مجريات الأمور. إن جزءا من الثقة التي أشعر بها يتأتى من أفكار هايك حول كيفية عمل السوق، لكن الكثير من هذه الثقة ينبع من الدليل المتراكم في الأعوام العشرين الماضية التي قام خلالها مئة مليون من الصينيين بقطع الرحلة نفسها التي نتكلم عن حدوثها في المستقبل. إن هذه هي الهجرة الأعظم في تاريخ البشرية، وأنا أخمن بأن القارئ لم يلاحظ حدوثها، إذ لم يحدث خلالها الكثير من التغيير في العالم، ولم يقم الصينيون بشراء جميع الدراجات، أو شراء جميع الأخشاب اللازمة لصناعة أقلام الرصاص، أو شراء جميع محاصيل البن اللازمة لصناعة القهوة؛ فعلى نحو ما استطاعت منظومتنا الاقتصادية أن تتولى مسؤولية هذه النقلة بكفاءة كبيرة إلى الدرجة لم يكن معها معظمنا قادرا على الشعور حتى بحدوثها في الأصل.[4]

إن أمثال هذه التغييرات تحدث طوال الوقت، فمنظومة السعر، ومعها الربح الذي نسمح للمنتجين بجنيه من خلال الاستجابة الفعالة للأسعار، تحافظ على انتظام حياتنا الاقتصادية في وجه هذه التغيرات. ويجب على أساتذة الاقتصاد، ومنهم كاتب المقالة، أن يبحثوا عن طرائق لتسليط الضوء على الأعمال اللامرئية لتلك المنظومة المذهلة. إنها منظومة توصف غالبا بأنها تنافسية، لكنها منظومة تعاونية في نهاية المطاف، وليس هنالك أحد يمكنه أن يدّعي قيامه بتصميمها، وهي تعمل دون الحاجة إلى من يكون مسؤولا عن إدارة عملها، وهذه أعجوبة من الأعاجيب التي ينبغي التوقف عندها مليّا.

 

راسل روبرتس

أستاذ علم الاقتصاد في جامعة جورج ماسون

ترجمة: علي الحارس

 

 

[1] للاستزادة: ثروة الأمم: آدم سميث؛ الباب الأول، الفصل الأول، بدءا من المقطع 11.

[2] راجع الفصل السابع من كتابه المذكور.

[3] مقالة حول تاريخ المجتمع المدني: آدم فيرغسون (1767)؛ ج3 القسم2 ص122.

[4] للاستزادة حول التاريخ الفكري لفكرة إمكانية انبثاق النظام دون الحاجة إلى تصميم واعِ أو إلى خطة محددة يمكن الرجوع إلى مقالة: مدرسة النظام التلقائي: نورمان باري.