logo

logo

الانتخابات الرئاسية الفرنسية وقضايا الهجرة

image

[caption id="attachment_2363" align="aligncenter" width="3500"]ماظرة المرشحين، عن جريدة لوموند. ماظرة المرشحين، عن جريدة لوموند.[/caption]

ظلّت الهجرة على امتداد التاريخ كظاهرة تجسّد التواصل الإنساني والتلاقح الحضاري، فمن خلالها انتشرت العلوم والأديان والثقافات.. وفي أعقاب الحربين العالميتين؛ كان للمهاجرين دور كبير في إعادة إعمار وبناء أوروبا التي خرجت منهما منهكة ومدمرة. وفي فرنسا؛ لعب المهاجرون دوراً أساسياً في تحريرها من النازية؛ وفي بناء فرنسا الحديثة؛ التي استطاعت لعقود أن تبلور سياسات عمومية سمحت باستثمار هذه الظاهرة في تعزيز تنوعها ودعم مسارها التنموي، بعدما تمكن العديد من المهاجرين من أجيال مختلفة من ولوج مراكز القرار في كثير من المجالات؛ كما أصبح عدد منهم يؤثث المشهد السياسي والثقافي والفكري الفرنسي.. وتحت ضغط التحولات الكبرى التي شهدها العالم منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي؛ تحولت الهجرة إلى معضلة حقيقية ألقت بتداعياتها على الدول المستقبلة وكذلك الأمر بالنسبة لمثيلاتها المصدّرة..

كما هو الشأن بالنسبة لعدد من الدول الأوروبية؛ تعود قضية الهجرة إلى الواجهة مع كل انتخابات فرنسية؛ خصوصاً وأنها تطرح ضمن أولويات برامج الأحزاب والمرشحين بشكل قوي منذ سنوات الثمانينات من القرن الماضي، غير أن التعاطي مع هذا الموضوع أصبح يكتسي قدراً كبيراً من الحدّة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول وما يسمى «الربيع العربي» والأزمة السورية. ومع اقتراب إجراء الانتخابات الرئاسية بالبلاد؛ كان لهذا الموضوع حضور قوي ضمن النقاشات التي أفرزتها الحملة الانتخابية لكافة المرشحين، وهو أمر طبيعي إذا ما استحضرنا أن الهجرة أصبحت واقعاً ملموساً؛ يطرح الكثير من الإشكالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما تعكسه العديد من المظاهرات والأحداث الاجتماعية التي عرفتها فرنسا في السنوات الأخيرة؛ وتباين المواقف بشأنها، وكذا العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد في العقود الأخيرة التي عمّقت معاناة الكثير من هؤلاء؛ بعد ربط بعض التيارات الأوروبية؛ الهجرة والمهاجرين بالتطرف والإرهاب.. وتظلّ الهجرة مرشّحة للتطوّر والتّصاعد والتعقيد بالنظر إلى الإشكالات الاجتماعية والسياسية والأمنية التي تعيش على إيقاعها الكثير من الدول الإفريقية؛ والعربية. وما يرافق ذلك من تصاعد وتقدم ملحوظ للتيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية داخل المشهد السياسي الأوروبي بشكل عام، والفرنسي على وجه الخصوص؛ والتي تتغذّى في خطاباتها وبرامجها على معاداة المهاجرين الذين تعتبرهم مسؤولين عن مجمل المشاكل السياسية والاجتماعية والأمنية التي تعرفها البلاد.. فقد حلّت قبل ثلاث سنوات الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف) التي تندرج شعاراتها في هذا السياق؛ في المرتبة الأولى ضمن الانتخابات الأوروبية؛ محقّقة بذلك انتصاراً غير مسبوق على مختلف الأحزاب الفرنسية الكبرى، وهو ما يبرز حجم الثقل الذي أصبحت تكتسيه هذه التيارات داخل الجسم الأوروبي بشكل عام. إن النقاش الانتخابي حول الهجرة هو نقاش متجدّد؛ تعكسه خطابات المرشحين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية؛ فهناك حضور قويّ لهذا الملف ضمن أجندة المرشحين الخمسة في هذه الانتخابات: «مارين لوبان» (اليمين المتطرف) و«فرانسوا فيون» (يمين) و«إيمانويل ماكرون» (مستقل) و«بونوا هامون» (يسار) و«جان لوك ميلنشون» (اليسار المتشدد). ف«مارين لوبان» المرشحة عن الجبهة الوطنية الفرنسية التي هي أول فاعل حزبي طرح مصطلح «الإسلاموفوبيا» ضمن نقاشاته وبرامجه الانتخابية للتهويل من المسلمين داخل أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص، وإن كانت تؤكد غيرما مرة على الترحيب بالمهاجرين شريطة الاندماج داخل المجتمع الفرنسي؛ كما تنبه باستمرار إلى تصاعد وتيرة «التطرف الإسلامي» الذي تعتبره تهديداً لعلمانية وتقاليد فرنسا وأوروبا. ويبدو أن هناك تخوفاً جدّيا في أوساط المهاجرين داخل فرنسا من صعود «لوبان» ووصولها إلى سدّة الرئاسة في ظروف دولية تعرف تزايداً في نسبة الهجرة واللجوء؛ ما قد يطرح تحدياً كبيراً أمام الظاهرة؛ وخصوصاً بعد فوز «ترامب» برئاسة الولايات المتحدة والمعروف بمقاربته الصارمة لموضوع الهجرة.. أما المرشح «إيمانويل ماكرون» فقد أكّد على ضرورة الاستعداد «لموجات هجرة» بصورة أكثر قوة وجدية مع تلك التي شهدتها أوروبا في السنوات الأخيرة؛ وهو لا يخفي إعجابه بالتدابير التي اتخذتها «أنجيلا ميركل» بألمانيا في هذا الصدد؛ واعتبرها مهمة وبنّاءة؛ وتحترم قيم أوروبا؛ وهو ما يحيل إلى إمكانية تعامله بشكل أكثر انفتاحاً وإنسانية مع الظاهرة في حال فوزه.. فيما يطرح «فرانسوا فيون» رؤية شاملة لتخفيض حدّة الهجرة نحو فرنسا؛ بالدعوة إلى اعتماد نظام حصص سنوية خاصة باستقبال المهاجرين، انسجاماً مع قدرة فرنسا على توفير مستلزمات هؤلاء.. ويدعو إلى تشديد التدابير لمواجهة اللجوء والهجرة كسبيل للوقاية من الإرهاب؛ وحظر الحجاب في المدارس؛ ودعوة المسلمين أنفسهم إلى نبذ ومواجهة التطرف.. أما المرشح «جان لوك ميلنشون» فلا يخفي اختلافه مع «لوبان» في التعاطي مع الموضوع؛ حيث اعتبر أن هذه الأخيرة تخلط بين العقيدة والإيديولوجيا كما أنها بمقاربتها للموضوع؛ تسعى إلى تقسيم الفرنسيين.. ومن جانبه؛ يعتبر المرشح «إيمانويل ماكرون» أن المشكل الحقيقي يتجسد في الهجرة السرية، حيث دعا إلى تنسيق الجهود مع دول الجوار لترحيل المهاجرين السريين نحو بلدانهم الأصلية.. أما خطاب «بونوا هامون» فيحيل إلى قدر من التفهم لظاهرتي الهجرة واللجوء وما تطرحهما من إشكالات إنسانية؛ وبخاصة مع تنامي الحروب والنزاعات في مناطق مختلفة من العالم.. إن التعامل مع قضايا الهجرة بكل صورها يقتضي تجاوز المزايدات والمقاربات الحزبية والانتخابية الضيقة؛ إلى استراتيجية شاملة تقوم على استحضار البعد الإنساني للظاهرة والتعاطي معها كواقع أسهم في تطور المجتمعات الإنسانية جمعاء.. وبلورة تعاون دولي يقوم على تدبير الأزمات وإنهاء الحروب ودعم جهود التنمية في الدول المصدّرة.. عن الخليج الإماراتية