logo

logo

في الأسس الفكرية لليبرالية

image

الوجه البارز لليبرالية هو وجهها الاقتصادي القائم على تمجيد حرية السوق وتثمين المبادرة الاقتصادية الفردية. وهو الوجه الذي أكسبها بعضا من سوء السمعة الجماهيرية والنخبوية وخاصة في القرن العشرين الذي شاهد ذروة مجد الفكرة الاشتراكية القائمة على فكرة المساواة الاقتصادية والاجتماعية التي دغدغت أحلام الملايين بل الملايير من البشر طيلة قرن كامل.

لكن مع انقشاع الضباب الإيديولوجي الكثيف الذي صاحب الفكرتين معا (حرية السوق ومثال المساواة الاقتصادية) وبخاصة مع أفول التجربة الاشتراكية بدأت تتضح معالم وإيجابيات الفكرة الليبرالية وبخاصة في بعديها السياسي والثقافي.

يتمثل البعد السياسي لليبرالية في تطابق محتواها مع الحداثة السياسية (أو مع المعالم الأساسية للتحديث السياسي) لدرجة أن العديد من السوسيولوجيين والفلاسفة يعتبرون أن النواة الصلبة للحداثة السياسية هي بالضبط ثقافة الليبرالية السياسية. فعندما نعرض مكونات إحداهما فنحن نعرض بنفس الوقت مكونات الأخرى.

غير أننا عندما نعرض لمقومات الليبرالية السياسية (أو لمقومات الحداثة السياسية من حيث الترادف القائم بينهما) فإن الأمر يتعلق بنموذج مثالي قد يتحقق بدرجات متفاوتة في هذا النظام السياسي أو ذاك لدرجة تسمح لنا بالقول إنه ليس هناك نظام سياسي ليبرالي نموذجي، فعناصر هذا النموذج هي من جهة مقومات ومكونات ضرورية لكل نظام يدعى الانتماء إليه،لكنها من جهة ثانية تشكل مثلا سياسية يهفى ويتطلع إليها بدرجات متفاوتة.

هذا النموذج المثالي لليبرالية السياسية يطلق عليه بعض منظري الفكر السياسي (ومنهم المفكر الفرنسي Alain Renaut) الركيزة أو النواة الصلبة لليبرالية (socle liberal) وقوامها مجموعة مقومات أو مكونات هي بنفس الوقت بنيات وقيم ومثل متداخلة، لكن الضرورات البيداغوجية تقتضي عرضها منفصلة بهدف الإبراز والتوضيح:

1- الأولوية المطلقة للحرية: والحرية -التي هي اللفظ أو المفهوم الذي يشتق منه اسم المذهب نفسه- تؤخذ هنا بمعاني مخصوصة: حرية الفرد وبخاصة حرياته الاقتصادية أساسا المتمثلة في حرية المبادرة الاقتصادية الفردية التي تفترض وتستلزم حرية السوق أو الحرية الاقتصادية، ثم في الدرجة الموالية الحريات السياسية الداعمة للحرية الاقتصادية والمتمثلة في حرية التصويت والترشيح والرأي والمعتقد وتأسيس الأحزاب والجمعيات وانتهاء بالحريات الفكرية المتمثلة في حرية الرأي والتفكير والمعتقد .....، أي أن الأمر لا يتعلق بحريات مجردة أو معلقة بل بحريات ملموسة تتمحور حول دعم وتأطير وتمتين حرية الفرد والتنصيص عليها قانونيا.

ارتباط الليبرالية بمقولة الحرية ينغرس في اغترافها من ثقافة الحرية من حيث إن هذه الأخيرة لا يمكن إقرارها إلا من خلال مجابهة الحتميات والقوى التي تتهددها وبخاصة مظاهر الاستبداد السياسي وكذا الهيمنة الثقافية والفكرية التي تفرضها العادات والتقاليد والأحكام الفكرية المسبقة التي يفرضها المجتمع التقليدي. وهكذا تبدو الليبرالية -من الزاوية الثقافية- ورثية فكر الأنوار وعصر الأنوار الأوربي في مختلف مصادره في أوربا (فرنسا-ألمانيا-إنجلترا-إيطاليا).

2- الأولوية المطلقة للفرد ككيان وكقيمة وكمعيار بما يجيز لنا القول بأن الفردانية مقوم أساسي من مقومات الليبرالية بما يجعلها في تعارض كبير مع كل النزوعات الجموعية (communautarism) باسم أي عنصر كان سواء كان اجتماعيا (نزعة وطنية أو إتنية أو طائفية) أو إيديولوجيا (الاشتراكية مثلا..).

فالفرد -بجانب الحرية- هو أقدس أقداس الليبرالية واقنومها الأساس.

3- مبدأ الحد (Limitation) من سلطة الدولة وهو مبدأ مرتبط بالمبدأ السابق ووجهه الآخر. فما يتهدد وجود ومكانة وقيمة الفرد ليس فقط قوة التقاليد وجاذبية الماضي والأحكام المسبقة بل هو -وربما أساسا- سلطة الدولة، وذلك انطلاقا من تصور أساسه أن الدولة كسلطة لديها ميل فيزيائي طبيعي وتلقائي نحو التمدد أي نحو بسط المزيد من الهيمنة كما وكيفا وامتدادا وذلك انطلاقا من رصد تجارب التاريخ السياسي في كل الدول حيث تتجه الدولة (كجهاز سلطة) باستمرار إلى التغول المستمر عبر تمدد بيروقراطيتها،حيث تعلن أن أهدافها تتماهى مع "روح" الأمة التي تحكمها هذه الدولة. فالليبرالية السياسية -على الأقل في مطمحها- تعتبر أنها الصيغة السياسية الأمثل والأقوى في محاربة التسلط والاستبداد السياسي والمطلقية السياسية (absolutisme).

وربما كانت التوجهات الأساسية للفكر السياسي الغربي ابتداء من القرن السابع عشر (لوك- هوبز-كنط- سبينوزا- فيخته- روسو... إلى راولز وهابرماس) هي التفكير في كيفية نزع الطابع المطلق عن السياسة وفصل اللاهوتي عن السياسي حتى لا يتدثر ويتعلل به، ثم في كيفية ربط السياسة وقضايا المجتمع بمبدأ التعاقد (لا بمبدأ الاستلهام العلوي) وإدراج المسألة السياسية في نطاق التشريع والقانون أو الانتقال من المنظور اللاهوتي السياسي إلى المنظور التشريعي القانوني وبالتالي تحويل المشروعية الثقافية من الأعلى إلى الأسفل ومن السماء إلى الأرض والتاريخ الحي وربطها بالشرعية التمثيلية والقانونية والمواطنة وسيادة الشعب...

ولعل التاريخ السياسي الحديث سواء في الغرب أو في غيره من المجتمعات يدور بالضبط حول وظائف وأدوار الدولة وعلاقتها بالمجتمع في إطار نوع من التعارض بين الدولة والمجتمع.

لذلك تكاد الليبرالية السياسية تتفاخر بأنها الأداة السياسية الأمثل لمقاومة نزوعات الاستبداد السياسي.

4- الحياد الاجتماعي والقيمي للدولة: منظور الليبرالية السياسية للدولة بمعنى الجهاز لا بمعنى الأمة هي كونها أداة لا غاية، أداة لمقاومة الاستبداد، أداة لإقرار الحرية الفردية وحرية السوق، أداة للحد من الفوضى الاجتماعية ولإحداث التوازن الضروري بين المكونات. وهذه الحزمة من الوظائف تتطلب دولة مختلفة عن دولة العصور الوسطى أي دولة محايدة أو حيادية تجاه مكونات المجتمع الإثنية-الطائفية-الطبقية-الإيديولوجية-الثقافية-الدينية... أي دولة مدنية لا دولة دينية أو عرقية أو إيديولوجية.

الدولة في منظور الليبرالية أداة عمومية للتدبير العقلاني للاختلافات والتناقضات الاجتماعية. فهي -مبدئيا- ليست طرفا في الصراع الاجتماعي. وبالنظر إلى استخلاصات التاريخ الأوربي فيما يخص الحروب الدينية، ترى الليبرالية أن الدولة حكم ووسيط وليس طرفا، فهي فيما يخص المسألة الدينية مثلا يجب ألا تكون شرطيا عقائديا (بالمعنيين الديني والإيديولوجي) بل الضامن الأساسي لحرية المعتقد الديني والإيديولوجي، ومنبع وراعي مقولة التسامح المؤسسي والقيمي بين المعتقدات.

5- التحويل التدريجي للأخلاق من دائرة الفضيلة والضمير

إلى دائرة التشريع والقانون

من التحولات الفكرية والسياسية العميقة التي دشنتها الليبرالية السياسية وعمقت بها أبعاد وأعماق الحداثة السياسية مسألة التحويل الجذري للأخلاق والتقويم الأخلاقي من الضمير إلى التشريع.

لهذا التحول خلفيات فكرية وثقافية عميقة في معنى النفس والسلطة والأخلاق والضمير... فبما أن المجتمع الحديث قائم على الإنتاج بحكم التطور التقني فإن تكاثر الخيرات الفردية والجماعية يتطلب الانتقال من المراقبة الذاتية التي يمثلها الضمير والأخلاق التقليدية ومقولة الفضيلة إلى المراقبة الموضوعية أو الخارجية. فالنفس البشرية ضعيفة أمام المغريات والرغبات وهذه قد تتحايل نفسيا على الفرد فتوهمه بالطهرانية والنقاوة والسداد حيث لا أحد يستطيع أن يمتلك القدرة على الوعي الذاتي الصحيح. ومن ثمة ضرورة تحويل الضمير والأخلاق الذاتية إلى مؤسسات وقوانين وتشريعات هي وحدها القادرة على إضفاء "أخلاقية موضوعية" على السياسة وربما كان فصل الأخلاق (بالمعنى التقليدي) عن السياسة أو تغيير نوع العلاقة بينهما امتدادا لفصل السياسة عن الدين وتكميلا لأساليب حسن التدبير والأداء السياسي بعيدا عن أية مزاعم أو مشاعر هي في النهاية تغليف لمصلحة خاصة فردية أو جماعية بغطاء ديني أو أخلاقي. وكل ذلك يشى بافتراض نوع من سوء النية تجاه الأفراد والجماعات التي تسخر وتستثمر (بقصد أو بغير قصد) القيم الأخلاقية والدينية والإيديولوجية لكسب النفوذ أو الغنيمة أو الحظوة أو غيرها من المكاسب، وتوفيرا لأحسن وأمثل الظروف لـ"تساوى الحظوظ والفرص" أمام الجميع.

لليبرالية -وخاصة في صيغتها الأوروبية- منبعان كبيران. فهي من جهة بنت المختبر التاريخي وصراعاته وما تولد عنه من مطالب وتوازنات. لكنها من جهة أخرى بنت تفكير واجتهاد. لذلك يمكن أن نقول أن البنية التحتية لليبرالية هي الثقافة الليبرالية ثقافة الحرية والفرد.

قوام هذه الثقافة تصور جديد للإنسان ولمفهوم ولمعنى التاريخ، وتصور جديد للمجتمع، وللحق... قوامها ومفرداتها هي: الحرية والفرد والتصور التعاقدي للمجتمع والسياسة والتاريخ، والمواطنة والتمثيلية والحق والتعدد والتدبير العقلاني للاختلافات والتناقضات وهي بنية فكرية وثقافية تصب في المعنى العميق للحداثة والتحديث.